قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

وا معتصماه


على الرغم من شهرة قصة «وا معتصماه» الواسعة، وعلى الرغم من كثرة دورانها بين الناس في مجالس العلم والمنابر والمدرجات والمنصات، وعلى الرغم من مللهم إياها وضجرهم بها بل وإعراضهم عنها؛ فإني في هذه الأيام أحبها أعظم الحب، وأوثرها أيما إيثار على أي قصص أخرى مهما تكن رائعة ممتعة.
كان ترديد «وا معتصماه» مرة قديما كافيا لإنصاف المظلومين، وإخضاع الظالمين، وصيانة الأعراض، وإصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوج، ومحو الظلم والطغيان، بل وفتح مدينة منيعة بجيشها وأسوارها العالية. 
أما اليوم فترديدها مليون مرة لا يغني المظلومين عن ظالميهم، والأعراض عن الانتهاكات، والدماء عن السيلان، والحكومات عن الجور والطغيان، والمدنيات عن الخراب والدمار؛ وما أظن أنه سيغني مهما يحاول المظلومون أن يرددوها الدهر كله.
إذن افتقدت «وا معتصماه» جلالتها وقوتها، فلا تعود رائقة خلابة في أسماعنا نحن المسلمين، ولا مهيبة مفزعة عند أعدائنا. فيا ليت شعري، ما الذي صير «وا معتصماه» كلمة فارغة عابرة، بعد أن كانت خطيرة مخيفة؟ أجبنٌ عن ضعف هو أم لامبالاة عن أنانية؟ لست أدري.

مدينة البعوث الإسلامية، ٦ سبتمبر ٢٠١٧م
أحمد سترياوان هريادي

بين الحفيد والجد - المسرح الثاني

الحفيد وجده
الجد: ما هذا الوجه الشاحب يا بني؟ 
الحفيد: إن كلمات الخطيب اليوم أثارت في نفسي شيئا فاستوقفتني
الجد: وما هي؟
الحفيد: إن أجدادنا العرب -كما قال الخطيب- كانوا عظماء الدنيا؛ تفوقوا على أمم الأرض حضارة وعلما وأدبا. 
الجد: صحيح.. وما الذي أشكل عليك؟
الحفيد: المشكلة هي لم أحببنا وضعنا هذا المحزن؟ ولم لا نقتدي بأجدادنا فنأخذ حظنا من النهضة والتقدم؟
الجد: سؤال وجيه من مصلح حائر
الحفيد: هلا أرويت غلتي!
الجد: على رسلك يا فيلسوفي العزيز! أولم يخطر ببالك يوما أننا أحببنا مجد أسلافنا كل الحب، فانشغلنا بتتبعه وإحصائه والتأكد من أصالته والتفاخر به، فتوهمنا أن مجدهم هو مجدنا؟!


نزيل القاهرة، ربيع ٢٠١٦
أحمد سترياوان هريادي

بين الحفيد والجد - المسرح الأول

الحفيد وجده
الحفيد: ما لي أرى صديقا لي قد أعرض عني منذ اليوم؟
الجد: ماذا -أي بني- فعلت؟
الحفيد: لم أفعل غير ما يسره..
الجد: أحقا؟
الحفيد: بل لم أكن أملك شيئا إلا وقد أعطيته مثله
الجد: ربما أسأت إليه من حيث لا تدري
الحفيد: مستحيل!
الجد: بل العكس! 
الحفيد: أفصح يا أبت! عجزت عن فهمك منذ اليوم
الجد: أن تسره -أي بني- ما كان معناه أن تجعله مثلك


نزيل القاهرة، ربيع ٢٠١٦
أحمد سترياوان هريادي

من للعربية بعد العميد؟

عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين
ليس من الغريب في شيء أن اتسعت آفاق المعرفة، وتعددت روافد الثقافة في يومنا هذا. ومن ثم فليس عجيبا أن نقابل أي شخص مهما تكن طبقاته وتخصصاته؛ فإذا هو يحدثنا عن أشياء كثيرة في العلوم والفنون وأحدث الحوادث في العالم حديثَ الخبير المجرب. بل العجب كل العجب أن نلقى شخصا فإذا هو فارغ العلم، خاوي الثقافة، ضيق الأفق، لا علم له بإحدى لغات العالم؛ في وقت تكون المعلومات فيه نصب العين، وفي متناول كل من أراد.
ومع توفر هذه المعلومات عند كل الناس - علاوة على المثقفين؛ تنقصهم للأسف سعة الفجوة بين مستوى ما يعرفون، ومستوى ما يعبرون به عما يعرفون، أو عما يفكرون، أو عما يختلج في داخلهم. ومرد ذلك واضح بينٌ يتراءى لنظرة عابرة ساذجة؛ ألا وهو الغض من شأن العربية، فتفتر العزيمة على التزود بأبسط ما يجعل العربي صاحب لسان فصيح وتعبير جميل؛ ينصت الناس إليه مهما يطل حديثه، ومهما يتشعب موضوعه، ذلك لأنه جعل سمعهم مسحورا مذعنا وقلوبهم مأخوذة منقادة. 
على أننا قد نغمض العين عن تقصير العامة في الاهتمام بلغتهم، لانشغالهم المتواصل بما يقيمون به الأود في كل ميادين الحياة.. أما أن يجاري العلماء والمثقفون العوام في إهمال العربية الفصحى - بل وفي هجرها؛ فهذا إنذار بالويل المستطير لمستقبلها، وإشارة إلى أن حان لظلام حالك ونازلة كبرى أن يلمان بأرجاء العروبة. 
صحيح أن هناك مستويات خمسا للغة العربية المعاصرة كما صنفها الدكتور السعيد بدوي في كتابه القيم «مستويات العربية المعاصرة في مصر».. بيد أن نظرة عابرة في وسائل الإعلام والمنابر والمساجد والمدرجات يومنا هذا؛ ترغمنا إلى الاعتراف بحقيقة لا انفلات لنا منها مهما تكن محاولاتنا.
وهذه الحقيقة، إلا تكن مؤلمة موجعة، فهي على أقل تقدير تثير في نفوسنا دوام الإشفاق على وضع لغتنا العربية، ذلك لأنها لا تبطل تصنيف الدكتور السعيد وحده، بل لأنها تحرم -أو تكاد تحرم- العربية الفصحى المنطوقة المنيعة من اللحن؛ من الوجود. فعلماء الدين والأساتذة والمثقفون والأدباء والنقاد في عصرنا؛ يؤثرون الحديث بالعامية إيثارا، ويتوغلون فيه توغلا.. وإذا يتحدثون بالفصحى؛ لم يكادوا يشرعون في الحديث حتى يتسرب إلى ألسنتهم لحن -وا أسفا- يثير المقت والازدراء. 
فالعربية لم تكن في العصر الحديث تفجع في شيء مثل فجعه في طه حسين رحمه الله، إذ استحالت بموته الغيرةُ على العربية والتعصبُ لها زعما وادعاء، بعد أن كانت على يديه قولا محققا وفعلا مجسدا، غير حافل أفي جد هو أم في هزل، أطال حديثه أم قصر. ألا ترانا -ونحن نقرأ «حديث الشعر والنثر»- قد ملكنا الإعجاب والإكبار لفصاحة العميد، واقتداره على أن يقف ساعات طوالا باقيا على فصاحته إلى نهاية المحاضرات، دون أن يجد اللحن إلى لسانه سبيلا، أو العامية إلى حديثه طريقا. ناهيك عن طرافة مضمون تلك المحاضرات وقيمته، أو ناهيك عن قوة حفظ العميد وذوقه الأدبي الرفيع، أو ناهيك عن موسيقى أسلوبه الساحرة الممتعة وسلاسته.


بيد أن اللافت للنظر هو أن روعة حديث العميد لا تتوقف عند إلقائه إياه؛ حيث ذهبت روعته بانتهاء صاحبه من الإلقاء، فلما تعود إلى حديثه غدا أو بعد غد لتقرأه؛ فاتتك تلك الروعة، لافتقاده نبرات صاحبه وإشاراته أثناء الإلقاء. كلا! بل ظل حديث العميد -ولو أعدت قراءته مرات عديدة- رائعا ممتعا بتناوب موسيقاه وعذوبته، فضلا عن طرافة مضمونه. 
وهذا الذي أعنيه سيكون واضحا عندما تقارن بين ما فيك من شعور وانفعال حين تصغي إلى حديث الإمام الشعراوي البليغ، وهو يفسر آية الذكر الحكيم؛ وبين ما فيك من شعور وانفعال حين تتصفح تفسيره للآية نفسها. ألا ترى البون شاسعا جدا بين الأول والثاني؟ ألا تراك تسمو إلى السماء فكأنك من أهلها في الأول، وأنت في الثاني لا تكاد تجد من السمو والمتعة ما وجدته في الأول؟     
ونحن في يومنا هذا نعيش حياة أدبية معظمها ظلام إن لم نستطع أن نقول كلها ظلام، فلم نعد نرى أديبا -فضلا عن غير الأديب- يعلن أمام الملإ أنه للعامية أو لركاكة التعبير خصم لدود قولا وفعلا كما كان عليه العميد. ثم إذا أمعنا النظر في المنتجات الأدبية في الآونة الأخيرة، رأينا كما هائلا منها -وبالخصوص الرواية- قد شابته العجلة فحرمه لذة النضج، وداسه التسرع فمنعه روعة العمق. بيد أن عدم نضجها أو عمقِها ليس بشيء؛ إذا قيس بما في لغتها (أو قل: سردها) من ركاكة لا تحتمل، بل واضطراب يزهدنا في قراءتها فضلا عن دراستها.
على أن لهذه الظاهرة المحزنة مسوغا ليس في وسعنا الغض عنه، وهو أن مقياس التميز والرواج في كل المجالات في عصرنا هو السرعة. فأضحت الأنظار تتجه إلى كل شيء سريع وإن كان تافها، وأعين الناس اليوم لا يعجبها إلا ما هو أسرع وإن كان خفيف الوزن. إذن فلا بد أن تترك تلك الظاهرة المؤلمة آثارا سلبية، أقلها أنها ترغب الناس في الأدب الرخيص وتزهدهم في الأدب الرفيع، وأنها تحرم النشء من الذوق السليم وتعوقهم عن التقدم والرقي.
ولنا في ختام حديثنا أن نطرح أسئلة: إلام هذا التغاضي عن ضياع العربية الفصحى أمام أعيننا، وهذ الرضا عن تخلفنا في اللغة والأدب؟ ألم يأن لنا أن نهتم بلغتنا العربية اهتماما قبل فوات الأوان؟ ألم يأن لنا أن نستحيي من ضعفنا في لغتنا فنتزود بما يجعلنا أصحاب لسان فصيح وتعبير جميل؟ ألم يأن لنا أن نطمح في أن نكون خيرا من طه حسين رحمه الله في تعصبه للعربية الفصحى، وفي اقتداره على امتلاك زمام العربية، وفي تضلعه من العلم والفكر والثقافة، وفي تمكنه من اللغات الأجنبية؟ []

مدينة البعوث الإسلامية، ٢٧ أكتوبر ٢٠١٨
أحمد سترياوان هريادي
إندونيسي الجنسية: باحث في الأدب والنقد (الماجستير) بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر.

* نشرت هذه المقالة ملخصة في مجلة الأزهر، عدد نوفمبر ٢٠١٨م

عظمة المتنبي من منظار العقاد - 1

صورة العقاد رحمه الله في شبابه
ما كان العقاد حين بدأ يقرأ ديوان المتنبي وشروحه قراءة البصير المتأني؛ إلا معملا فكره كله في أي ناحية من نواحي أبي الطيب المتشعبة جديدة، سيكون له بسبب تطرقه إليها حظ من الطرافة والأصالة والتميز. ذلك لأن العقاد ما كان يقتنع يوما بأن يكون لما يقرأ عارضا ناقلا، أو جامعا مقررا؛ دون أن يكون له ما يبرز شخصيته من طريف الرأي، أو جديد الاتجاه، أو أصيل الاجتهاد. وفعلا..
إن قراء العقاد -والمعجبين لآثاره خاصة- لعلى تمام الوعي لما استهللت به مقالي هذا؛ إذ لم يكد قارئ مثقف واع يدخل دنيا العقاد عبر كتبه، حتى وجد نفسه في عالم يعلوه طموح جامح إلى التميز، وتسوده رغبة ملحة في التغلب. هذا ما يتعلق بالعقاد نفسه. أما ما يتعلق بمحتوى ما كتب؛ فإن هذا القارئ المثقف الواعي لا يسعه إلا أن يقر له بهذا التميز وذاك التغلب، وألا يخرج من دنياه إلا وهو على اقتناع بأن العقاد عالم وحده، ونسيج وحده؛ في القراءة والتفكير والرؤية والاتجاه.
وهذا الطابع واضح جدا حينما يخوض العقاد ميدانا، يُظن أن من العسير -بل المستحيل- لكاتب أو لباحث أن يأتي فيه بجديد شائق أو طريف رائق؛ ألا وهو ميدان سيدنا رسول الله عليه السلام. فقد مضت ثلاثة عشر قرنا ولم يدخر العلماء وسعا -مسلمين كانوا أم غير مسلمين- في عرض الفكرة وبسط الحديث عن أعظم إنسان في التاريخ؛ ولم يألوا جهدا في استكشاف أسرار الشخصية النبوية الفذة الممتازة، وسبر أغوار القدرات الروحية المحمدية الخارقة.
لكن العقاد لم يكد يقبل هذا التحدي ويخوض غماره، حتى خرج منه منتصرا. أجل، إن كل ما ورد في «عبقرية محمد» من الحوادث والأخبار والروايات معروف لا جديد فيه. بل الجديد فيه -كما قال أحد النقاد- «هو عرضه واستخدامه واستخلاص النتائج منه. وهو اختيار الحادثة المناسبة في موضعها المناسب. ومن هذا كله تبدو الحوادث والروايات والنصوص في مواضعها وكأنها جديدة هناك، يطالعها القارئ لأول مرة، ويخطر له من معانيها في مواضعها هذه ما لم يخطر له قط وهو يراها من قبل مرة ومرة»[1].
هذا ما يتعلق بما لم يتعب فيه القلمُ ويُرهَق بالبسط والتحليل والتنقيب؛ كتعبه وإرهاقه بالبسط والتحليل والتنقيب عن عبقرية الرسول عليه السلام أعظم العظماء، صاحب عظمة العظمات. أما ما دون ذلك مثل البحث في المتنبي وشاعريته ودورانه بين الناس؛ فالأمر للعقاد -بلا شك- هين ميسور. ترى، ماذا فعل العقاد بالمتنبي؟ أله ما يروقنا حينما بسط الكلام عليه؟ أمصيب هو فيما ارتآه حول المتنبي وعظمته؟ ما مدى التقارب أو التخالف بين رأيه في المتنبي وبين آراء من كتبوا عن المتنبي أمثال الدكتور طه حسين وتلميذه الأستاذ محمود شاكر؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها في المقال القادم بإذن الله.

القاهرة المحروسة، 12 فبراير 2018م
أحمد سترياوان هريادي




[1] مجلة الرسالة: العدد ٤٦٩، بتاريخ ٢٩ يونيو ١٩٤٢م.