قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

كيف نجح الأزهر في رفع كفايات الطلاب الوافدين في السنوات العشر الأخيرة؟


لقد بلغ ظني حد اليقين؛ إذ ظننت أني لست الوافد الإندونيسي الوحيد الذي شعر بسعة الفجوة بين محصوله العلمي، وأدنى المستوى العلمي الذي ينبغي أن يكون عليه طالب أزهري وافد، حين يلتحق بالكليات النظرية بجامعة الأزهر. وبناء عليه، لم يكن هنالك بد -وأنا طالب السنة الأولى في الكلية سنة ٢٠١٠م، وعهدي بمصر لا يزيد على بضع أشهر- من أن ينال مني الارتباك بل والفزع؛ حيث التبس علي الأمر وتداعى أمامي سلّمُ الأولويات.

فلست أعرف ما يجب علي تعلُّمه وإتقانه أولا حتى يستقيم لي الأمر، وحتى يتاح لي أن أتماشى مع مقررات الأزهر الشريف؛ إذ ليس بيني وبين امتحان الفصل الدراسي الأول إلا شهر واحد، وفي الوقت نفسه قد قُرر على طلبة الفرقة الأولى بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين من المواد الدراسية ما ليس لي ببعضه عهد في بلدي؛ مثل الأدب الجاهلي بتاريخه ونصوصه، وعلمي العروض والقوافي اللذين كنت -قبل أن تطأ قدمي أرضَ مصر- أجهل اسمهما جهلا تاما فضلا عن أعرف حقيقتهما.

وقد حاولت من ثم اللحاقَ بالركب الذين قد قطعوا في دراستهم أشواطا بالمواظبة على حضور المحاضرات؛ إلا أن ذلك لم يكن يغني من حالتي البائسة شيئا. فالذي كنت أفهمه من تلك المحاضرات التي ألقيت باللغة العربية الفصحى لم يكد يبلغ ربعَه، فما بالك بالقلة القليلة التي ألقيت بالعامية؟ فليس لي بد إذن من أن أقع في حيص بيص، هنالك ليس قدامي خيارٌ كي أجتاز ذاك الامتحان الصعب إلا أن أعتمد على الحفظ -مع الجهل لمضمون المحفوظ- اعتمادا يكاد يكون تاما.

ذلكم شيء يسير من الحقيقة المرة التي كنت أواجهها في بداية عهدي بالأزهر الشريف، ولا شك أن مواجهة الحقيقة -كما يقول الأستاذ العقاد- من أصعب المصاعب في هذه الدنيا. وإذا حاولت أن أعرف مصدر تلك الحقيقة المرة التي كانت تقف حجر عثرة في طريق اللحاق بالركب الدراسي-وأكبر الظن أنها لا تزال تحول بين كل طالب إندونيسي قادم من بلاده وبين التماشي الطبيعي مع الجو الدراسي الأزهري إلى يومي هذا- فإني لا أجد مهربا من أن أقطع بأن ضعف المستوى اللغوي نطقا وكتابة؛ هو علة العلل بالإضافة إلى تواضع المستوى الثقافي.

وما من شك في أن الوقوف على تلك الحقيقة تسوقنا إلى التساؤل: أليست هذه العلة راجعة إلى انحطاط مستوى التعليم وخاصة تعليم مواد اللغة العربية والعلوم الإسلامية الذي أشرفت عليه وزارةُ الشؤون الدينية في بلادي؟ ولا بد -مع بالغ الأسف واحتراما للحقيقة- أن يكون النفي هو الجواب. على أن الأمر بدأ يستقيم لي ولغيري من الطلبة الإندونيسيين مع مرور الزمان وخاصة بعد أن نقطف الثمار اليانعة التي كانت حصادَ الجهود الجبارة المتواصلة، بذلها الأزهر الشريف -برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر- في سبيل تعليمنا معشر الوافدين وتثقيفنا.

وأول ما نراه من أثر ملموس من تلك الجهود الجبارة هو إنشاء مركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها الذي مر على إنشائه عقد من الزمان، والذي بات حريصا على جعلنا معشرَ الوافدين أكثرَ استعدادا -من حيث المهارة اللغوية استماعا وتحدثا وقراءة وكتابة وما يتبعها من خلفية ثقافية كافية إلى حد ما- للالتحاق بالكليات النظرية أو التطبيقية بجامعة الأزهر. والآن أضحى مركز الشيخ زايد بلا مراء «مركزا عالميا لتعليم الفصحى لغير الناطقين بها طبقا لمعايير الجودة العالمية لتعليم اللغات الثانية؛ حيث يوفر للطلاب الوافدين أفضل العناصر من الهيئة التدريسية والخبراء المؤهلين لتنفيذ أحدث المناهج والمواد التعليمية وتطبيقها؛ باستخدام أفعل مداخل التدريس وطرائقه وفنياته، وتفعيل الوسائط والتقنيات التعليمية الحديثة».

وكذلك لم يدخر الأزهر الشريف جهدا في تعليمنا وتثقيفنا؛ حيث قام بتفعيل منظومة الرواق الأزهري بالجامع الأزهر المعمور تفعيلا فيه انضباط مراعًى، ونظام محكم، ومواكبة واعية للركب الحضاري والتطور التكنولوجي. هنالك لم يكتف مسؤولو الرواق الأزهري بأن يُـحضروا لنا في تلك الأروقة المباركة أساتذةً ممتازين متمكنين في تخصصاتهم معروفين بسعة العلم وسماحة النفس، فكانوا -ولا يزالون- لنا نعم الغذاء عقليا وروحيا وسلوكيا؛ وإنما علتْ بهم هممُهم في تحقيق عالمية الأزهر الشريف فوضعوا تلك المحاضرات القيمة المتنوعة المجالاتِ المتعددة التخصصاتِ على المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ حتى يسهل تناولُها ويحسن فهمها ويعم نفعها، وحتى يكون ذلك كله شاهِد صدقٍ على مرجعية الأزهر العالمية من ناحية، وعلى تلك الزعامة العلمية التي كانت -ولا تزال- له عبر القرون من ناحية.

كل ذلك أسهم في دفعنا معشر الوافدين إلى اللحاق بهؤلاء الركب حتى يتسنى لنا بعد لأي وجهد غير منقطعين السيرُ معهم جنبا إلى جنب، ذلك السير الذي كلما أمعنّا فيه مع مرور السنين؛ ازددنا يقينا واقتناعا ما بعدهما يقين واقتناع بأننا لم نكن نخطئ الاختيارَ حين ولينا وجوهنا شطر الأزهر الشريف، ووطنّا العزم على قصده تاركين أحباءنا وأهلينا، هاجرين دفء العيش في أكنافهم، مؤثرين مشاق الجهاد في سبيل العلم على لين العيش في  بلادنا؛ حتى نكون على بينة من أمر ما بعثه الله به سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أولا، وحتى نكون امتدادا شرعيا نابضا لمنهاج الأزهر الشريف في الحفاظ على تعاليم ديننا ولغة كتاب ربنا، وفي نشر ثقافة الإسلام السمحة في شعب لم يعرف التعدد والتنوع من حيث الأعراق والمعتقدات والثقافات والتقاليد واللغات كما عرفهما الشعب الإندونيسي.  

على أن الأزهر الشريف ما كان يقتنع في يوم من الأيام بما وصل إليه من نجاح باهر في الارتقاء بمستوى تعليم الوافدين، وإنما ترسخ في نفوس المسؤولين به أن عملية التعليم -ومنها تعليم الوافدين- عملية مستمرة التطور سواء في طرائقها أم في وسائلها أم في موادها، ولا بد من ثم أن يواكبها تقييمٌ دائم وتقويم متواصل في ضوء ما أملاه عليهم خبراتُ الأزهر التعليمية عبر القرون، وما أضافه خبراءُ التعليم الفعال وأصحاب التكنولوجيا التطبيقية من نافع التوجيه وسديد الرأي وواضح الإستراتيجية في إسباغ العملية التعليمية الأزهرية أصالتَها وتفردها في عصر التكنولوجيا؛ من حيث الجمعُ بين خصيصة الأزهر الأولى وهي التصدي لأعمق مباحث العلوم وأكثرها تعقيدا وأخفاها على النظرة العجلى، وبين توظيف التكنولوجيا الطبيقية؛ مثل إنشاء تطبيق شامل متقَن على جهاز الهاتف الذكي؛ يضم كل المستويات (المبتدئ والمتوسط والمنتهي) والمناهج والمقررات والمحاضرات من الأساتذة؛ وخاصة ما قرر على طلبة الدراسات العليا ومحاضرات كبار الأساتذة والعلماء، وهذا ما تفرد به الأزهر الشريف بلا شك. وكل ذلك -كما ترى- أمسى في ظلال الجائحة الراهنة واقتضاء التعليم من بعد ضرورةً ما لنا عنها محيص.

 وأبرز دليل على عدم اقتناع الأزهر الشريف بما وصل إليه من نجاح باهر في الارتقاء بمستوى تعليم الوافدين، وعلى إلحاحه على ضرورة التقييم والتقويم؛ أن أنشأ «مركز تطوير تعليم الطلاب الوافدين والأجانب» -برئاسة فضيلة الأستاذة الدكتورة نهلة صبري الصعيدي- «استكمالا لجهود فضيلة الإمام الأكبر في تصحيح مسار تعليم الوافدين، مع الحفاظ على مقومات الأزهر وخصائصه؛ بحيث لا ينفصل عن ماضيه، ولا ينعزل عن حاضره..». ومنذ إنشائه سنة ٢٠١٨م؛ تدفقت إنجازاتُ المركز في تحقيق أمثل ما يمكن أن يكون من أعمال جليلة ملموسة جامعة لما فيه خيرُ الطلاب الوافدين ورقيُّهم سلوكا وعلما وثقافة. ولعل أوضح مظاهر التقييم والتقويم في عملية تعليم الوافدين؛ أن قام المركز في شهر إبريل ٢٠٢١م الماضي بعقد المؤتمر الدولي عن بعد بعنوان «تعليم الوافدين والتحول الرقمي: التطلعات والتحديات»، تحت شعار «نحو أنموذج جديد في تعليم الوافدين بالأزهر». وقراءة فاحصة في التوصيات الست عشرة لذاك المؤتمر الذي شارك فيه أكثر من سبعين عالما وخبيرا ودبلوماسيا وباحثا؛ تبدي لنا جدية الأزهر الشريف وإصراره على التحول الرقمي في كافة المستويات، وخاصة في منظومة تعليم الوافدين؛ الأمر الذي من شأنه أن يعزز مكانة الأزهر العلمية والريادية والقيادية أولا، ويساعده على نشر تعاليم الإسلام الصحيحة السمحة على المستوى العالمي في العصر الرقمي ثانيا، ويضيف خدمات جليلة في تحسين الأداء التعليمي للطلاب الوافدين بالأزهر الشريف ثالثا. [] 

 

مدينة البعوث الإسلامية، ١٦ أغسطس ٢٠٢١م

أحمد سترياوان هريادي: باحث إندونيسي في مرحلة الماجستير (تخصص الأدب والنقد) بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر.

* نشر هذا المقال في مجلة الأزهر، عدد نوفمبر 2021م