مع بعض الأمثال الشعبية الإندونيسية


بقلم: أحمد سترياوان هريادي  
  لم تكن الأمثال الشعبية شيئا متداولا بين الناس، استعملوها صباحَ مساءَ لتعبير ما يريدون أن يعبروا؛ ولا شيئآ محفوظا أم مقررا على الدارسين في كتب اللغة والأدب، قرأوها قراءة ثم لم يلبثوا أن فهموها فهما حتى يتسنى لهم اجتياز ما واجهوه من صعاب الامتحان. وإنما هي قبل كل شيء مرآة لشعب من الشعوب صادقة بالغة الصدق؛ تعكس فلسفة حياتهم، وتراكم خبراتهم عبر العصور، وخصائص البيئة التي يعيشونها.
  ذلك لأننا رأينا أن بعض فنون الأدب قد يقصر في تصوير حياة شعب من الشعوب حق تصوير؛ وتفصيل ذلك أن الشعر مثلا لم يكن يجيده كل أفراد الشعب، بل قلةٌ قليلة منهم. وإذا أتى الشعر بشيء من صورة المجتمع فهل نستطيع أن نجزم بأن ما جاء به صادق في تصويره للأحوال الاجتماعية وفي تعبيره عن نفسية أفراد المجتمع؟ هيهات! إن الشعر لا يمثل إلا تلك القلة القليلة من الشعراء، بل لا يمثل إلا الشاعر نفسه.
  وما الأشياء التي فرضها الشعر على الشاعر من تأمل انعزالي، واستنفاد الطاقة الشعورية، وإيثار الإيحاءات -عبر الموسيقى الشعرية وظلال الألفاظ- على التصريح والتفصيل؛ ليست إلا دليلا على انحصار الشعر في دائرة ضيقة جدا، واستغناء الشعر -قبل كل شيء وبعد كل شيء- بنفس الشاعر وعالمه الشخصي وانفعالاته عن أحداث خارجية، وقصور الشعر عن تمثيل طائفة من الشعراء فضلا عن أفراد الشعب كلهم.
  أما الأمثال الشعبية فشأنها مختلف عن الشعر بعض الاختلاف؛ حيث إنها جزء لا ينفك عن الشعب، تصحبهم حين يمسون وحين يصبحون، لم نكد نصغي إلى أحاديثهم حتى ألفيناها زاخرة بضروب متنوعة من الأمثال. هذا -إن دل على شيء- إنما يدل على أن نطاق الأمثال أوسع، ودورانها بين أفراد الشعب أكثر، ويدل على أن تمثيلها لشعب من الشعوب سواء من حيث فلسفة الحياة، أم من حيث تراكم الخبرات، أم من حيث البيئة المعيشة؛ أصدق من كل الفنون الأدبية.
  وإذا تقرر لنا أن الأمثال الشعبية أصدق الفنون الأدبية تمثيلا وتصويرا للشعب من كل جوانب الحياة، فما أحراها إذن بأن تدرس دراسة يعلوها العمق والاستقصاء، وأن يعنى بها الدارسون عناية فائقة متواصلة؛ حتى يتسنى لهم الوصول إلى ما يريدون أن يصلوا إليه من الحقائق، وحتى لا تتسم نتائج أبحاثهم بالجزئية بل بالقشورية إن صح هذا التعبير. وعلى هذا الأساس حاولنا بعض المحاولة أن نبحث في الأمثال الشعبية الإندونيسية لنتعرف على بعض الملامح المميزة لشعب إندونيسيا عن غيرهم من الشعوب؛ ذاك لأن الأمثال لشعب من الشعوب -كما سبق أن قلنا- تمثل فلسفة حياتهم، وتراكم خبراتهم، وخصائص بيئتهم أصدق تمثيل.
  وإليك بعض الأمثال المشهورة بين شعب إندونيسيا:
١. يوم يكون المجداف في الحوزة مرة، لا بد من اجتياز جزيرتين أو ثلاث 
  هذا المثل ربما أشهر الأمثال الشعبية في إندونيسيا، وأصدقها في التعبير عن نفسية الإندونيسيين، والبيئة التي يعيشونها. فإندونيسيا جغرافيا تتكون من جزر كثيرة تربو على ١٧٠٠٠ جزيرة، وليس هناك قبل عشرات القرون سبيل إلى التواصل بين شخص في جزيرة وآخر في أخرى إلا بالقوارب، أو بالسفن إن كانت المسافات بين الجزيرتين شاسعة؛ إذ ليست هناك في القدم بواخر أو سفن ميكانيكية يُستغنى بها عن المجداف. فالمجداف إذن أخذ مكانا أساسيا جدا لمن أراد أن يُبحِر.
  فــ«المجداف» رمز للفرصة المتاحة لشخص ما، يستطيع بها أن يستغلها، لا لبلوغ مأرب، وإنما لبلوغ مآرب كثيرة. و«اجتياز جزيرتين أو ثلاث» أفاد أن هناك جزرا كثيرة لا تعرف النهاية لا بد من اجتيازها؛ وأفاد أن الإنسان ما كان ينبغي أن يقتنع بما وصل إليه اليوم من تقدم في العلم، وغزارة في الإنتاج، ومكانة في المجتمع؛ بل لا بد له أن يشعر بأنه ما حظي بشيء وما وصل إلى شيء، حتى لا يركن إلى الراحة، ولا يؤثر الحياة الوادعة على حياة الجد؛ فتتوقف المحاولة، وتفتر العزيمة، ويتراجع الإنتاج.
  هذا المثل قاله أجدادنا قبل آلاف السنين، وتوارثناه جيلا بعد جيل، وشكل نظرتنا نحو الحياة، وهي أن الفرصة الذهبية أبت أن تأتي مرتين، فلا بد من انتهازها أفضل الانتهاز، ولا سبيل إلى التفريط فيها مهما تكن الظروف ومهما يصعب المرتقى، وعلى هذا الأساس نالت إندونيسيا استقلالها في ١٧ أغسطس ١٩٤٥، إذ كانت تحت احتلال اليابان، فلما انهزمت اليابان هزيمتها الماحقة أمام دول الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب القنبلة الذرية في «هيروشيما» و«ناجازاكي»؛ انتهز المؤسسون لهذه الدولة هذه الفرصة الذهبية فأعلنوا الاستقلال، ولم يكتفوا بذاك وإنما أعدوا الجيوش من بني جلدتهم -وقد تم تدريبهم على يد الجيش الهولندي ثم الياباني- لانتهاب الأسلحة من أيدي الجيوش اليابانيين المتبقين، لأنهم سيخوضون بعد أشهر قلائل معركة ضروسا جدا للدفاع عن الاستقلال ضد هولندا التي أرادت أن تحتل إندونيسيا مرة أخرى.. وبعد جهاد دؤوب متواصل سواء كان دبلوماسيا أم حربيا؛ تحقق للشعب الإندونيسي الانتصار، وتم لإندونيسيا الاعتراف باستقلالها دوليا في ١٩ ديسمبر ١٩٤٩.
٢. مثل بوم يعشق قمرا   
  هذا المثل شهير جدا، أطلقه الإندونيسيون على رجل يعشق امرأة غير أنها لا تبالي به ولا تلقي له بالا، بل ولا تعترف بوجوده؛ أو أطلقوه على من تطلع إلى أمر يستحيل أن يبلغ أو يكاد يستحيل، ومع ذاك ما زال يطمح إليه رغم أنه يدرك استحالته أو بعده عن المنال. ذلك لأن البوم دائما ما يرمق القمر ليلا على أغصان الشجر ولا يكاد يصرف بصره عنه؛ فكأن القمر قد ملأ عينه وقلبه، وأن جماله قد سحره وأخرجه عن طوره، فأحبه أيما حب، وعشقه كل العشق، وعلق عليه جلّ آماله في أن يكون بينهما لقاء فيصارحه بمكنونات قلبه، ويقاسمه فيضان مشاعره. غير أن القمر معشوقه لا يعبأ به ولا يكترث له؛ يحضر دوما ويغيب دوما طاعة لأمر ربه سبحانه.
  بيد أن البوم عند العرب مختلف أعظم الاختلاف عن البوم عند الإندونيسيين، فلا يعود البوم عند العرب شاهدا على صدق الحب والوفاء، ولا دليلا على روعة الصبر وبعد الطموح؛ وإنما هو مثل يضرب لما يشمئز منه أصحاب الفطر السليمة مرة، ومثل يضرب للشؤم وقبح الصوت والصورة أخرى. قال الأزهري في تهذيب اللغة: «كانت العرب تقول: إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر، خرج من رأسه طائر كالبومة فيصيح على قبره: اسقوني! اسقوني! فإن قتل قاتله كف عن صياحه». ونحن من النص السابق نفهم كيف كان البوم كريه المخبر، وكيف كان ممقوت المنظر عند العرب؛ إذ نستطيع أن نتصور كم كانت بشاعة ذاك الطائر الخارج من رأس الميت وقذارته.. ثم شبهوا ذاك الطائر البشع القذر بالبومة؛ فالبوم إذن نهاية للشيء البشع القذر عند العرب.
٣. مثل الجمبري تحت الحجر
  كنت متحيرا حينما أريد أن أترجم هذا المثل إلى العربية؛ لأني لم أجد في كتب المعاجم الحديثة -فضلا عن كتب المعاجم القديمة- ترجمة عربية مناسبة لكلمة Shrimp غير برغوث البحر والروبيان والجمبري، فآثرت كلمة «الجمبري» -مع أنها في الأصل كلمة إيطالية- على كلتيهما لشهرتها وسهولتها على اللسان. والجمبري كما في «معجم اللغة العربية المعاصر» هو جنس حيوان بحري صغير من القشريات، عُشاريات الأقدام، يعرف ببرغوث البحر.
  أطلق الإندونيسيون هذا المثل على شخص ذي هدف معين لا يعلم كنهه إلا هو، أو على الهدف نفسه الذي لا يعلم حقيقتَه إلا صاحبُه. ذلك لأن الإندونيسيين رأوا أن من طبيعة الجمبري أن يعيش في الماء، ويتصرف فيه كما يشاء؛ يصطاده الصيادون ليلَ نهارَ في البحر. ولكن لما رأوه يتواجد تحت الحجر حيث يتوارى هناك أي في البَرّ؛ فلا بد إذن أن يكون هناك مقصود معين أو هدف معين لذاك الجمبري، فقالوا لأصحابهم لما رأوا شخصا يتظاهر بما ليس من عادته، وبما هو غير معروف به؛ كأن يتصدق فجأة بأموال جمة وليس له عهد قبل ذلك بالصدقة ولا بالإنفاق، أو أن يغالي في مدح صاحب المنصب الكبير مغالاة غريبة؛ قالوا عن هذ الشخص: «خذوا حذركم! فإن الجمبري تحت الحجر».
  وبعد، فتلكم ثلاثة الأمثال الكثيرة التداول بين الإندونيسيين إلى يومنا هذا، وما أراها إلا صادقة كل الصدق في التعبير عن نفسيتهم، وفلسفة حياتهم، ونتيجة تفاعلاتهم مع بيئتهم التي يعيشونها. []


(فاز هذا المقال بالمركز الأول في مسابقة "الأمثال الشعبية من بلادي" للطلاب الوافدين بالأزهر الشريف؛ عقدها الصالون الأدبي بمدينة البعوث الإسلامية، يوم ٣ إبريل ٢٠١٧م. وقد ترأس لجنة التحكيم الأستاذ الدكتور إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر السابق، والأستاذ الدكتور السيد أبو الشنب عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية. للاطلاع على الخبر اضغط هــنــا)

0 comments:

إرسال تعليق