قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

الفلاح والمرأة في روايات توفيق الحكيم - البحث

 
الفلاح والمرأة في روايات توفيق الحكيم
رواية «حمار الحكيم» نموذجا
(دراسة تحليلية نقدية)

تحت إشراف:
الأستاذ الدكتور زهران محمد جبر

إعداد الطالب:
أحمد سترياوان هريادي

المقدمة
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد.
فلا يزال الأستاذ توفيق الحكيم يحتل مكانة مرموقة في عالم الأدب العربي الحديث إلى يومنا هذا، فإنتاجاته الأدبية والفنية والفكرية غزيرة متشعبة، حافلة بالتجديد والابتكار في بعض فنون الأدب، داعية إلى الانشغال بها بحثا ودراسة وتحليلا ونقدا وتوجيها وتقييما.
لقد كان الأستاذ توفيق الحكيم في حياته أديبا ذائع الصيت، فشهرته لم تكن منحصرة في العالم العربي فحسب، بل شملت العالم كله؛ إذ تمت ترجمة مؤلفاته إلى اللغات العالمية العديدة، ومن ثم فليس غريبا أن تسابق الأدباء العرب والأعاجم في تقريظ إبداعاته ودراستها ونقدها وتقييمها، كل ذلك -إن دل على شيء- إنما يدل على أصالته الإبداعية وتميزه الفني وعبقريته الفذة.
لقد تناول الأستاذ الحكيم في إبداعاته الأدبية قضايا كثيرة؛ سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم دينية أم فلسفية أم تاريخية. غير أن القضية الاجتماعية -كما يظهر لنا- أخذت حظا كبيرا من اهتمام الأستاذ، فأمعن النظر فيها وأكثر الحديث عنها. ونتج عن ذلك أن تعددت مؤلفاته الأدبية التي تناولت القضية الاجتماعية خاصة ما يتعلق بالمصريين في الأرياف-وأعني بهم الفلاح والمرأة.
على أن الأستاذ الحكيم إذ يتحدث عن المصريين في الأرياف؛ قد يتجاوز -كما يظهر لنا- حد الإنصاف في نقده لهم، ولعل رواية «حمار الحكيم» أصدق تمثيل لإسراف الأستاذ في نقد الفلاح والمرأة، وبناء على ذلك اخترنا تلك الرواية الصغيرة الحجم لتكون موضع دراستنا.
لقد استغل الأستاذ الحكيم تلك الرواية لتصوير ما يتعرض له المصريون في الأرياف من حياتهم القذرة، وذوقهم السقيم، ومظاهر أريافهم القبيحة؛ وحاول من خلالها استدراك العلة التي تحول بينهم وبين التقدم والرقي والنظافة، وحاول من خلالها اقتراح فكرة يمكن بها إصلاح المجتمع وقيادته نحو الصلاح والخير.
ونحن في هذا البحث نريد أن نتوصل إلى كنه هذه الفكرة، وأن نستدرك بواعث نقد الأستاذ اللاذع للمصريين في الأرياف من خلال تطورات حياته ونفسيته، ثم نريد أن نضع ذاك النقد في الميزان لنقيّمه، وأن نبرز ما فاته الأستاذ الحكيم في نقده من حقيقة يجب أن تُعنَى، وظاهرة يجب أن تراعى، حتى لا يعلو الحكمَ شيء من الإسراف، بل والمجازفة.
وبناء عليه اعتمدنا في هذا البحث لكي نتوصل إلى الحقيقة على هذه الخطة البحثية التالية:
- المقدمة: بينا فيها ما دفعنا إلى كتابة هذا البحث كما بينا خطتنا في البحث.
- المبحث الأول: بينا فيه نشأة الأستاذ توفيق الحكيم وتطورات حياته وشيئا من نفسيته التي يستمد منها الأستاذ تصوراته للمجتمع ونقده له.
- المبحث الثاني: قمنا فيه بتلخيص أحداث رواية «حمار الحكيم»، وتشخيص نوع تلك الرواية، وبيان التجربة الشخصية والفكرة الذهنية في الرواية.
- المبحث الثالث: قمنا بدراسة ما تحتويه رواية «حمار الحكيم» من نقد للفلاح والمرأة، كما قمنا بتوجيه ذاك النقد وتقييمه.
- الخاتمة: عرضنا فيها ما وصلنا إليه من نتائج بحثنا.
ولا ننسى في الختام أن نوجه إلى الأستاذ الدكتور زهران محمد جبر جزيل شكرنا وكبير تقديرنا؛ إذ تفضل بالإشراف على هذا البحث المتواضع، كما تفضل بإسداء التوجيهات القيمة النفيسة إلينا. والله تعالى نسأل أن يبارك في عمره، ويمتعه بالصحة والعافية، ويمده بميسور الأمور وموفق الخطى. والله ولي التوفيق..

المبحث الأول
حياة توفيق الحكيم
لا نريد في هذا المبحث أن نسرد كل ما يتصل بحياة الأستاذ توفيق الحكيم كما فعله هو في كتابه «زهرة العمر» أولا حينما صور للناس تكوينه الفكري، ثم في كتابه «سجن العمر» ثانيا حينما حاول أن يحلل تكوينه الطبعي حيث اعتبر هو أنه سجين أبدي في طبعه. كلا! فإن ذلك -بجملته وتفصيله- يحتاج إلى كتاب مستقل يبحث فيه كما فعل الكتاب والباحثون من أمثال الأستاذ محمد السيد شوشة في كتابه «85 شمعة في حياة توفيق الحكيم»، أو الأستاذ أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه «توفيق الحكيم أفكاره وآراؤه»، وغيرهما.
إذن نحن لا نريد في هذا المبحث أن نسرد حياة توفيق الحكيم جملة وتفصيلا، وإنما نريد أن نبدي من حياته بعض الأشياء التي تؤدي إلى ما نريد الوصول إليه من أسباب جنوحه فيما كتب من الروايات إلى نقد المجتمع -أو بعبارة أدق: الفلاح والمرأة- نقدا مرا، وأسباب مغالاته في نقد عقلية المرأة المصرية نقدا لاذعا مسرفا. وما السبيل إلى تلك الأسباب إلا التعرف بتكوينه الطبعي والفكري، وذلك من خلال نشأته وحياته العلمية والثقافية، في شيء من الإيجاز والاختصار.         
فهو حسين توفيق بن إسماعيل بن أحمد الحكيم، ولد في فجر يوم 9 أكتوبر 1898م بحي محرم بك - الإسكندرية. وجده للأب الشيخ أحمد الحكيم فلاح من أعيان قرية صفط الملوك - بحيرة، كان مجاورا في الأزهر مع الشيخ محمد عبده، ثم انقطع عن الدراسة للزراعة حيث ورث عن آبائه 80 فدانا[1]. وأما أبوه إسماعيل الحكيم فكان ماضيا في طريق التعليم حتى نهاية الشوط حيث حصل على درجة الليسانس في الحقوق مع زملائه الذين سيصبحون فيما بعد رجال الدولة المصرية؛ أمثال عبد الخالق ثروت باشا وإسماعيل صدقي باشا وأحمد لطفي السيد باشا. ثم عين إسماعيل الحكيم عقب تخرجه موظفا في القضاء المصري.
وأما أمه «أسماء» فكانت أسرتها من أهل البحر ممن أطلق عليهم اسم «البوغازية»، قال توفيق الحكيم أصل أسرة أمه: «ويظهر أن أصل هذه الأسرة من الترك أو الفرس أو ألبانيا.. لا أدري بالضبط، إن سحنة والدتي وجدتي وما لها من عيون زرقاء، تنم عن أصل غريب على كل حال»[2]. وكانت طموحا صارمة الطباع معتزة بنفسها، وكانت تحظى بشيء من التعليم فحببت لابنها توفيق القصص[3].
قضى توفيق الحكيم أيامها الأولى منعزلا محبوس الأنفاس، حيث سدته أمه عن الاتصال بالعالم الخارجي، وهذا -في رأي الدكتور شوقي ضيف- «جعله يستدير إلى عالمه العقلي الداخلي»[4]. أضف إلى ذلك أنه أصيب منذ صغره بالقلق، قال الحكيم عن هذا المرض: «لا أستطيع منه فكاكا طول عمري، إني في حالة قلق دائم طول حياتي، حتى عندما لا أجد مبررا لأي قلق، سرعان ما ينبع فجأة من تلقاء نفسي، هذا القلق الروحي والفكري لا ينتهي عندي أبدا ولا يهدأ، إني سجينه سجن الأبد»[5].
ولما بلغ السابعة من عمره ألحقه أبوه بمدرسة دمنهور الابتدائية، وظل بها ردحا من الزمن، حاول فيه أن يحرر نفسه من وثاق أمه، وحياة الانفراد التي أخذتْه بها، ولكنه لم يستطع إلا في حدود ضيقة. ولما أتم تعليمه الابتدائي رأى أبوه أن يرسله إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، وكان له بها عمّان يشتغل أحدهما مدرسا بإحدى المدارس الابتدائية، أما الثاني فكان طالبا بمدرسة الهندسة، وكانت تقيم معهما أخت لهما، فرأى أبوه أن يسكن مع عميه وعمته، ليساعدوه على التفرغ للدرس، وأتاح له بعده عن أمه شيئا من الحرية فأخذ يعنى بالموسيقى والتوقيع على العود[6].
ثم أخذ يعنى بالتمثيل فيختلف إلى فرقه المختلفة، وفي هذه الأثناء أتم تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة الحقوق، وكانت مواهبه الأدبية قد أخذت تستيقظ في قلبه وعقله، ولما رأى محمد تيمور وكثيرا من الشباب يقدمون لفرق الممثلين مسرحيات يقومون بتمثيلها وعرضها على الجمهور، شاركهم في تأليف مجموعة من المسرحيات سنة 1922م، ولكنها في جملتها محاولة بدائية بعيدة عن النضوج[7].
تخرج في الحقوق سنة 1924م وكان من الأواخر لاشتغاله بالتمثيل، ومن ثم حُرم من التحاق بالنيابة العمومية، فلا مفر له من الاشتغال بالمحاماة، فلما بدا إعراضه عنها سأله أبوه عن إعراضه ذاك، هنالك كاشفه بحبه للأدب وبرغبته الملحة فيه[8]، ثم قاده أبوه إلى صديقه لطفي السيد ليرى رأيه في حل مشكلة ابنه، فأشار لطفي إلى أن يرسله إلى أوروبا ليأخذ الدكتوراه في القانون أملا في أن يكون فيما بعد أستاذا جامعيا، وإنقاذا لابنه من الانغمار في الأدب[9]. وفعلا، أرسله إلى أوروبا ولكن الأمر ليس كما يتوقع، إذ ازداد توفيق انشغالا بالأدب والفن، بل انقطع لهما انقطاعا تاما، دراسة وإتقانا، جملة وتفصيلا.. وأصبح ما سافر لأجله مطروحا في مزبلة الإهمال.
فلما عاد من باريس سنة 1928م، وقد أضحى على قسط كبير من الأدب الغربي وفنه ابتدأت حياته الأدبية الحقيقية، وأخذت مؤلفاته الأدبية والفنية والفكرية تتدفق تدفقا، وأنشأت الأعاجم يترجمون مؤلفاته إلى لغاتهم المختلفة، فأصبح هو بما سبق قد ملأ الدنيا وشغل الناس، كبارَهم وصغارهم، خاصتهم وعامتهم.
وقد أحصى الأستاذ السيد شوشة أن مؤلفات الأستاذ توفيق الحكيم بلغت مائة، تضمنت 35 مسرحية طويلة، و41 مسرحية قصيرة، و11 رواية طويلة ومتوسطة، ومئات القصص القصيرة والمقالات والخواطر والمقطوعات الشعرية. وتمت ترجمة مسرحياته إلى تسع لغات عالمية، ومثلت في لندن وباريس وسالزبورج وبودابست وبالرمو، وصدرت كتب تحدثت عنه وفكره وأدبه وفنه بلغت نحو 30 كتابا، وهذا فضلا عن الأعداد الخاصة في المجلات والصحف[10].
توفي توفيق الحكيم في القاهرة يوم 26 يوليو 1987م عن عمر يناهز 88 عاما.
 
المبحث الثاني
تلخيص رواية حمار الحكيم والتجربة الشخصية فيها
1.   الأحداث في الرواية
استأنف المؤلف روايته بحديثه عن لقاء البطل «الكاتب» بالجحش -الذي سيكون فيما بعد صديقه- حينما كان في طريقه إلى حانوت حلاقه، ولم يكن يتوقع أنه سيشتري ذلك الجحش الرضيع، بل ولم يكن يتوقع أنه سوف يلتقي به، فيعجبه بديع تكوينه، ويدهشه جمال منظره، وتملكه رشاقة خطاه.
فلما رأى الفلاح يصيح بخمسين قرشا إشارة إلى ثمن الجحش، إذا الكاتب بدون تفكير يفاجئه بقوله: «ثلاثون قرشا..»، فبعد شيء من الثرثرة بسبب عرضه ذاك البخس، تم شراء الجحش من ذلك الفلاح المسكين، غير أنه وقع في حيرة عندما أشكل عليه أمر ذلك الجحش، إذ لم يكن يفكر في شيء من مربضه ولا من مأكله، أضف إلى ذلك أنه ساكن في الفندق، فليس له بد إذن من أن يفكر في ذلك فيطيل في التفكير، فاهتدى في آخر الأمر إلى حمله إلى الفندق، وجعل حمامه للجحش مربضا.  
وفي طريقه إلى الفندق بدأ الكاتب يتأمل ذلك الجحش، فإذا هذا الجحش مرآة لنفسه، وإذا كل من مشيته الرزينة وإطراقه وإذعانه دون أن يعني بتبدل الصاحب وبتغير المصير؛ مثل ما هو عليه في مشيته وإطراقه وإذعانه، وحينئذ صار الجحش له صديقا، أو بعبارة أدق: اعتبره صديقا.
فلما بلغ الفندق طلب من الخدم الذي اعتاد القيام بخدمته والعناية بأمره أن يحمل صديقه بين ذراعيه إلى حجرته في خفية تامة، ثم أخذ يدعو خادم الطابق الخامس الذي سكن فيه، ليعد لصديقه فنجانا من اللبن، بيد أن صديقه هذا تغاضى عما هيئ له، ونظر إليه كما نظر الزاهد إلى لذات الحياة.. وهذا بلا شك حير الكاتب، فإن فنجانا من اللبن -في اعتباره- لا يعد من الترف في شيء مهما يبلغ زهد الفيلسوف، ولا يحسب أن صديقه يستطيع أن يتحمل الصوم وقت طويلا، فلا بد إذن من علة في الأمر.
أخذ الكاتب يسترشد الناس في أمره، فأرشده أحدهم أن يشتري لصديقه بزازة نظرا إلى أن جحشه ذلك ابن يوم أو يومين، فلما عاد إلى حجرته -وفي يده بزازة- إذا صديقه لا يعود يوجد في مكانه، وإذا حيرة أخرى تلم به، وحين أطرق مفكرا في أمر صديقه إذا به يسمع الضحكات الرقيقة، فاتجه صوب الصوت، فإذا غادة شقراء مغرقة في ضحكها، وإذا اهتمامها كله متجه نحو الجحش الواقف أمام مرآة طويلة لخزانة ملابس كأنما يتأمل نفسه.
فلما التفت الفتاة إليه ورأت في يده بزازة فطنت إلى ما به وأسرعت عليه مقبلة، هنالك أخبرته عما عليه جحشه إلى أن دخل حجرتها، فتأمل صورته في مرآة بدون أن يعيرها شيئا من الالتفات، وهنالك في المقابل حدثها بشأن صديقه من أنه لم يطعم شيئا منذ اشتراه إلى ذلك الوقت، كأنما نسي شأن جسده وأنكر أمر «مادته»، وانتهى الأمر إلى أن عرضت عليه نفسها لتتولى هي إطعام صديقه.
على أن له مهمة في مساء ذلك اليوم اقتضت ذهابه إلى الريف، وأراد أن يصطحبه صديقه حتى يجد له حمارة ولدت حديثا ليطعم من ثديها، وأفاضت عليه شيئا من الحنان.. وفعلا، فبعد أن أعد كل ما يحتاج إليه في مهمته تلك الغريبة، اتجه إلى الحجرة المجاورة حيث الغادة الشقراء، وصديقه الفيلسوف، فاستأذن منها أن يذهب به إلى الريف.
هذه المهمة هي صحبة المخرِج الفرنسي -على الرغم من ضيق الكاتب بمظاهر الريف القبيحة وحياة الفلاحين القذرة- كخبير ومستشار له لإنتاج شريط سينمائي تصور أكثر وقائعه الريف المصري، هذا المخرج هو الذي راوده بكل صبر وبالغ اصطبار منذ أسبوعين على أن يشاركه في عمله حيث يتولى هو كتابة الحوار، نعم قبِل الكاتب ما عُرض له عن كره وضيق، إذ الكاتب قد اعتزم لانتهاء موسم عمله على الفراغ من أية مهمة مهما تكن، وأخذ يستعد للسفر إلى أوروبا حيث برامج صيفه السنوية، وحيث راحته واطمئنانه.
هنالك انطلق الكاتب والمخرج ومساعداه إلى قرية صغيرة في طريق البدرشين على بعد نحو نصف ساعة بالسيارة من القاهرة، ولم يكن السير متصلا هنيئا كما كان الكاتب يرجوه ويتصوره، وإنما غلبت عليه وقفة بعد وقفة كلما استرعى التفات المخرج منظر طريف ليلتقط منه صورة، ومضى السير على هذا المنوال حتى أشرف على القرية المقصودة.
استقبلهم ثمة مصور الكاميرا وزوجه مع بعض الموكلين بأمر المنزل من عمال الشركة السينمائية والخدم، فحملوا الأمتعة الخفيفية التي معهم، وبادر الكاتب يسأل عن حمارة ولدت حديثا في القرية، فأراه الخدم أن يكون الجحش الصديق تحت عناية العمدة فاطمأن لذلك، ثم أخذ يتأمل أحوال أهل القرية، فإذا هي هي في سوئها وقذارتها، فليس له بد إذن من أن يمقت مجيئه كل المقت، وأن يتحمل مرارة الحسرة ولذع الندم على مجيئه، بينما هو في ضيقه ذاك المتعالي، إذا المخرج وأعوانه على عكس ما هو عليه، وإذا هم معجبون كل الإعجاب مما رأوا من أحوال أهلها، فما وسعهم إذن إلا أن يغتبطوا بها ويسروا لها.
هنالك انشدهَ الكاتب بما ألفى من تناقض بينه وبين هؤلاء الأجانب في أحوال هؤلاء الفلاحين، فشرع يسألهم عن مصدر الجمال فيها، فأكد له المخرج أن فيها جمالا فنيا لا يجارى، وأن الحقيقة الفنية ليس لها علاقة بنظافة ولا بقذارة، وليس لها صلة بفضيلة ولا برذيلة، وليس لها ارتباط بحضارة ولا ببداوة. ثمة تبين له أن ذلك المخرج لا يتصور الأشياء بعقله، ولا يفكر بذهنه، إنما يتصور ويفكر بعينه.
فلما بلغ المنزل وحدق إليه، فلم يملك إلا أن انقبض صدره مما رأى من أحوال البيت الكبير التي تدل على سقم الذوق وسوء التفصيل والرسم والتخطيط، فبدى المنزل لزائره كأنما فقير الروح مهما امتلأ جيبه. ثم قاده الخادم إلى حجرته وقد بدأ الظلام حينئذ يلم بتلك القرية، وجعل هو يستعد للعشاء مع المخرج وفريقه، لما اجتمعوا على مائدة العشاء أنشأت الأحاديث تتشعب تشعبا، حتى إذا فرغوا منها وعادوا إلى حيث راحتهم.
على أن الكاتب لم يكد يدخل حجرته حتى وجدها مضارعة لجهنم، لقد تجمع كل ما يستوجب الهروب منها، فلم تكن الحرارة وحدها تضيقه، ولم يكن دوي البعوض وحده يذهب عنه أسباب الراحة والاطمئنان، وإنما كان هناك ما أقسى من الحرارة وأجشع من دوي البعوض، ألا وهو ما قصه عليه خادمه المعني به من فلاحي تلك القرية؛ من أن حجرته تلك قد قتل فيها صاحب البيت وتم قطعه إربا إربا، فاعتقد الناس أنها «مسكونة»، وسمعوا منها إذا انتصف الليل رنين المصوغات، فلم يكن له بد من أن يملكه الرعب والفزع، فأخذ يطلب من الخادم الفلاح أن يأتي بالمخرج لينقذه من حجرته تلك المشؤومة، ويقضي معه تلك الليلة كلها بعيدا عنها.
ثمة لجآ إلى سطح البيت الخاوي من الناس، إذ كان الآخرون قد آووا إلى مراقدهم، وأقبلا على جمال الليل المقمر وعلى نقاء الهواء المنشط، فلما أخذ المخرج يقوده إلى الحديث عن السيناريو أعرض في خفية عن ذلك كل الإعراض، وجعل يقترح عليه رأيا في نزهة صغيرة على جسر ترعة تلك القرية، فوافقه على ذلك، فنزلا إلى الطريق ثم انطلقا إلى حيث أرادا وفي صحبتهما الخفير النظامي.
ومن حسن حظهما أن صادفهما الفلاحون الهابطون بحميرهم من «داير الناحية» العائدون إلى دورهم، فترجلوا احتراما لهما لما علموا أن لهما شأنا وقدرا بوجود الخفير النظامي خلفهما، ولم يكد الكاتب يكاشفهم برغبته في استعارة حميرهم، حتى سلموا له ولمن معه حميرهم راضين. ثمة ساد في سيرهما إلى جسر ترعة القرية -بل إلى أن عادا إلى المنزل- أحاديث لا تنقطع.
على أن الكاتب امتنع عن النوم لما تذكر ما في حجرته، وقد انتصف الليل حينئذ، فاصطنع لصديقه المخرج حجج امتناعه، فاتفقا على أن يعودا مرة أخرى إلى سطح المنزل، وأخذ أحاديثهما تتشعب مرة أخرة حتى أقبل الفجر، وبدأ المخرج ومساعدوه أعمالهم حيث قاموا بتصوير الشمس الطالعة، وفي نفس الوقت قامت زوج المصور بإعداد الفطور، فلم يكادوا يفرغون من تناول الفطور حتى نهضوا إلى أعمالهم تلك الجادة المتصلة.
هنالك تذكر الكاتب صديقه الجحش، فأوفد من يطلبه من دار العمدة، فجاءوا به فقالوا إنهم قد عرضوا عليه كل أتانة والدة وحبلى في القرية، فما قبل الدنو من ثديها، وأصر على هذا الصوم الصوفي، فأكدوا له أنه سيموت لا محالة. فلم يكد المخرج يسمع ذلك حتى أمر مساعديه لتصوير ذلك الجحش الفيلسوف مع صاحبه الكاتب الجالس على الجرن خلف كوم القمح، ثمة بسط كفيه فتقدم الجحش الفيلسوف فوضع رأسه بين كفيه. فلما فرغوا من تصويرهما، سلم الكاتب صديقه الفيلسوف لأحد الفلاحين، ليعود به إلى حيث ينتظر في سكون قضاءه المحتوم، وعاد هو يتابع عمليات التصوير السينمائي إلى أن حان وقت العصر، فنبه صديقه المخرج إلى ساعة عودته، وذكّره بالموعد الذي اقتضى وجوده بالقاهرة ذلك المساء، فأمر في الحال الخدم فأعدوا السيارة، فأخبره بأنه سيعود إلى القاهرة بعد يومين أو ثلاثة ليزوره، ثم أوصاه بأن يضع كل همه في مسألة الحوار، فطمأنه الكاتب في كلمتين ثم انطلق.
عادت حياته إلى سيرتها الأولى، فانشغل بما انشغل، ونسي ما كان يجب أن يقوم به من شأن الحوار، وبعد أيام زاره صديقه المخرج فحدثه عن شيء مما وصل إليه عمله السينمائي، ثم تطرق إلى دعوة العشاء من المتولي الأمورَ المالية والإدارية لشركته السينمائية بجوار الأهرام، غير أنه رفض تلك الدعوة كل الرفض وأبدى له كل ألوان الاعتذار، ولكن الصديق المخرج هو هو في صبره ومصابرته على مراودته عن نفسه، فليس له بد من أن يجيب تلك الدعوة.
وفي مساء اليوم التالي جاءته سيارة تحمله إلى تلك الدعوة الملأى بأفراد الجاليات الأوروبية المتصلين بشئون الفن، فلما بلغ الصحراء حيث المائدة الكبيرة، ألفى صديقه المخرج في استقباله، فقام هو بإعلام الناس أن هذا الكاتب هو الذي تولى كتابة الحوار، غير أنه ضاق بهم ذراعا فتسلل إلى حيث يتمتع بخياله ووحدته. على أنه لم يكد يتمتع بوحدته حتى جاءته سيدة أوروبية، فتبادلا الأحاديث، إلا أن الحديث عن نفسه وطبعه أخذ قسطا عظيما، إلى أن انتهى بانصرافها عنه.
في اليوم التالي زاره صديقه المخرج، فبدآ يتبادلان الأحاديث كما اعتادا عليه، هناك حاول الكاتب اصطناع المقدمات والحجج، حتى تخلص من أعباء كتابة الحوار وانفسخ العقد عن تراض منهما، إلا أن المخرج لم يضق بذلك ذراعا، فألح عليه أن يكون هو كاتب الحوار، وأن يتريث بعض الشيء كي يفكر في أمر ذلك الحوار، ثم فكر الكاتب في أن سيذهب بالحوار إلى أوروبا ليكتبه هناك.
وفعلا ذهب به، إلا أنه لم يكد يبلغ أوروبا حتى نسي كل شيء في مصر وشئون مصر، فلا بد للحوار من أن يهمل كل الإهمال، وأن يطرح في مزبلة النسيان، إلى أن فرغ من برامج صيفه في أوروبا ورجع إلى مصر في شهر سبتمبر، هناك وجد خطابين مسجلين من محامي الشركة يشيران إلى العقد وأمر تنفيذه، وإلى التبعة التي نتجت عن التأخير، فتذكر ما نسي من شأن الحوار، فاعتزم على الشروع في الكتاب، على أنه لم يكد يبدأ حتى ازداد يقينا باستحالة كتابته لأنه لا يتفق ومزاجه.
فلما علم المخرج عودته، وقد بدأت الحرب العالمية في أوروبا تشتعل، وأخذت الأعمال السينمائية بسببها تتوقف مؤقتا، أسرع إليه فاعتذر للخطابات المسجلة، وكاشفه بأن انقطاع أخباره في أوروبا اضطره إلى الإجراء، ليدرأ عنه مسئولية التأخير أمام الشركة، ثم دعا المخرجَ إلى العشاء في مطعم الفندق، وفي ذلك أخبره بموت جحشه الفيلسوف يوم سفره إلى أوروبا.
هنالك بدأت ذكرياته مع صديقه الفيلسوف تلم به، فتذكر يوم التقطوا صورته مع الجحش، وتذكر كيف وضع رأسه بين كفيه كأنما يفكر مثل الإنسان، ثم أسرف في أمر جحشه الرحيل فاعتبره أنه أحكم من الفيلسوف الفرنسي «جوته»، وأنه في نظر «الحقيقة العليا» مخلوق يثير الاحترام، وراكِبُه مخلوق يثير السخرية، ثم تطرق إلى أنه لا يعود يصح أن يُركَب، لأنه زعم أنه سمع في كل خطوات جحشه همسات تطلب الإنصاف من الزمان ليَركَب، ولا يعود يُركَب، فاستدل بأنه جاهل بسيط وصديقه جاهل مركب.
2.   تشخيص نوع الرواية والتعقيب على أحداثها
لم تكن هناك أية صعوبة في إدراك بطل رواية «حمار الحكيم»، فما هذه الرواية إلا ترجمة ذاتية تصاغ في قالب روائي، فالصفات الجسدية والنفسية للبطل «الكاتب» في تلك الرواية ليست إلا للأستاذ توفيق الحكيم نفسه، كما تحدث عنها في كتابه «سجن العمر»[11]، وكذلك الأحداث فيها ليست  إلا سلسلة تجارب المؤلف، وصفحة من صفحات حياته.
وبناء على ما سبق فليس بعيدا عن الصواب إذا اعتبرنا رواية «حمار الحكيم» من جنس روايات التجربة الشخصية التي -كما قال الدكتور أحمد هيكل- «يرتكز محورها الرئيس على تجربة عاناها المؤلف، حيث كان بطلها، ومدار أهم أحداثها، وحيث كانت تلك الأحداث تمثل جزأً من حياة البطل أو صفحة من حياته»[12].
على أن نظرة عامة إلى أحداث تلك الرواية تبدي لنا أنها بسيطة جدا لا تعقيد فيها، فكون تلك الرواية رواية التجربة الشخصية؛ يقتضي أن تنعدم العقدة، أو أن تقلّ العقدة التي يمكن أن تجعل الأحداث صعبة معقدة كما كانت الحال في الروايات التحليلية، كما يقتضي كونُها روايةَ التجربة الشخصية عدمَ العناية بعنصر التشويق.
ويظهر لنا أن العلة في ذلك أن المؤلف لم يرد إلا سرد تجربته الشخصية وإقناع فكرته الذهنية في قالب روائي، ومن ثم رأيت الحديث على لسان البطل -وخاصة «الكاتب»- فيها يسرف في الطول، لأنه هو وحده وسيلة المؤلف لإبداء تجربته وفكرته.
3.   التجربة الشخصية والفكرة الذهنية في الرواية
أما هذه التجربة الشخصية فأبرزها محاولة المؤلف الجادةُ لمعرفة العلة التي تجعل المصريين في الأرياف باتوا متخلفين. ذاك التخلف المتجسد في حياتهم تلك القذرة، وفي ذوقهم ذاك السقيم، وفي مظاهر أريافهم تلك القبيحة. ذاك التخلف الذي لا ينبغي -مهما كانت الظروف- أن يتعرضوا له في قليل ولا في كثير.
إنهم المصريون الذي طبعوا على سجيتهم تلك الكريمة الطيبة، إنهم المصريون الذي رزقوا وفرة المقومات من أرض خصبة، ونهر عظيم، وتاريخ مجيد، وموقع إستراتيجي. وإذا كان الأمر كذلك فحتمي أن يكون فيهم التحضر حيث الجمال والذوق، وحيث النظافة والنظام، لكن ماذا حصل؟ إنهم في نظر المؤلف باتوا متخلفين، وباتوا متورطين في تخلفهم.
وهذا المظهر العجيب المدهش ينبغي أن يبالَغ في العناية به، وفي التماس أسباب التخلف، وفي محاولة القضاء على تلك الأسباب. هنالك رأى المؤلف -من خلال تجربته، وقراءته لتاريخ مصر في كل العصور، ولتاريخ الأمم المتقدمة في أوروبا- أن العلة في ذلك التخلف هي افتقاد المصريين «السيدةَ» بالمعنى الأوروبي للكلمة.
تلك السيدة التي لا بد للمصرية أن تماثلها في روحها وعقليتها ووظيفتها، لكي يأخذ المجتمع بوجودها حظه من الجمال والذوق والنظافة والنظام كما كان المجتمع في أوروبا. فهي بمماثلتها تلك للسيدة الأوروبية تقتضي خلع ما فيها من روح الجارية العثمانية وعقليتها ووظيفتها، لتظهر من تلك المصرية آثارُ جدتها السيدة الفرعونية التي ماثلت السيدةَ الأوروبية، بل فاقتْها وسبقتْها.   
أجل، إنها السيدة التي تقوم بإدخال المثل الصالح في النظافة والجمال والذوق إلى جميع البيوت، والتي تقوم على كاهلها أعباءُ مواساة الفقير ومداواة المريض من أهل حيها أو ريفها، وتجميل القبيح من بيتها، وتعمير الخراب من أحوال بيئتها. وعلى الجملة، إنها السيدة التي يجري في عروقها دم الحرية والسيادة، فتشعر في نفسها دائما بأنها تحمي شيئا وتدافع عن إنسان، فتجعل من عملها الطبعي ومن واجبها القومي أن تحمي الفقراء والأطفال والمرضى والبيئة. وهذه المرأة -في نظر المؤلف- لم توجد بعد في مصر، سواء في الأرياف أم في المدن، ولغيابها هذا كانت قذارة حياة المصريين، وقباحة مناظر بيئتهم، وسقامة ذوقهم.
وبعد، فذلك بعض ما احتوت الرواية من تجربة شخصية أو فكرة ذهنية حرص المؤلف على أن يؤمن بها القراء كما هو بها مؤمن، وفي المبحث التالي سنحاول بمشيئة الله التحقق من صحة تلك الفكرة وتقييمها.            

المبحث الثالث
نظرات في فكرة توفيق الحكيم ونقده للفلاح والمرأة
لم تكن رواية «حمار الحكيم»[13] تنفرد بنقد الفلاح والمرأة نقدها ذاك المر المسرف، ولم تكن أولى روايات الأستاذ الحكيم التي استغلها لنقد المجتمع وإبراز فكرته، بل هناك روايات سبقتْها بالنقد وباستغلال مؤلفها إياها، وما «عودة الروح»[14] ولا «يوميات نائب في الأرياف»[15] ولا أمثالهما؛ إلا دليل واضح وضوح الشمس على ما سبق، هذا بالإضافة إلى ما لحق روايةَ «حمار الحكيم» من مؤلفات شتى.
ومن ثم فليس بعيدا عن الصواب إذا أثبتنا أن النقد للفلاح والمرأة والإسراف فيه مطبوع في نفسية الأستاذ الحكيم وفي عقليته. ونحن بعد ذلك نطرح أسئلة: ما سبب جنوح الأستاذ الحكيم إلى نقد المصريين في الأرياف في معظم مؤلفاته؟ ولماذا خص الفلاح والمرأة بالإسراف في نقدهما؟ وإلى أي حد تتطابق فكرته في أن العلة في تخلف المصريين افتقادهم «السيدة» بالمعنى الأوروبي للكلمة - مع الواقع المعاش والحقيقة التاريخية؟
تلك هي عدة أسئلة نحاول الإجابة عنها في هذا المبحث.
ليس هناك أدل على سبب جنوح الحكيم إلى كثرة النقد للمجتمع غير نفيسته وعقليته. أما من حيث نفسيته فقد اعترف الأستاذ بأنه «ليس رجل مجتمعات»[16]. ومعنى هذا أن الأستاذ لا يجيد التعامل مع الناس، فضلا عن أن يندمج في المجتمع، فعدم إجادته التعامل مع الناس قد ألجأه رغما منه إلى حب العزلة والنظر إلى الدنيا من منظور ذاتي ضيق. وصاحب هذه النفسية غالبا عاجز عن فهم مشاعر الناس، تراه يقسو عليهم -وهو يتحدث عنهم- فلا يشعر بقسوته ولا يكترث لها.
 وقد اعترف الأستاذ أيضا أنه دائم القلق إذ قال: «إني في حالة قلق دائم طول حياتي، حتى عندما لا أجد مبررا لأي قلق، سرعان ما ينبع فجأة من تلقاء نفسي»[17]. ومعنى ذلك أنه كان يقلق دائما عندما يرى شيئا لا يرضيه مثل الأوضاع الاجتماعية السيئة، فهذا القلق هو الذي أرغمه إلى أن يفكر في حل المشاكل وفي إصلاح الأوضاع. غير أن تفكيره ذاتي محدود في عالمه الشخصي، لا ينبني على ملابسة الواقع والتفاعل معه تفاعلا أتاح له الاستقراء والموضوعية والتأني في حل المشاكل وإصلاح الأوضاع.
وأما من حيث عقليته فراجعة إلى طبيعة عقليته التي سماها الدكتور أحمد هيكل بـالطبيعة الفكرية التأملية الانعزالية[18]. وهذا النوع من العقلية قد يتسع لأن يتفاعل مع الفلسفة ومذاهبها المتنوعة. وهذا ما حدث فعلا للأستاذ الحكيم، فقد أكثر من قراءة الفلسفة ومذاهبها، وتتبع النظريات الفلسفية واحدة بعد أخرى، بل وهضمها. على أنه لم يكن يستطيع أن ينظر بعقله إلى الدنيا إلا من ذلك المنظور الفلسفي المثالي الذي ينأى بالطبع عن حقيقة الواقع المعاش وعن الخبرة والتجربة.  
وهذا التفاعل بين نفسية الأستاذ الحكيم وعقليته هيأه لأن يكون أبرز الأدباء اهتماما بالقضية الاجتماعية، فلا جرم أن استغل معظم مؤلفاته الأدبية لنقد المجتمع. وليس غريبا أن بدى تفكيره المتمثل في نقده للمصريين في الأرياف ممضا لاذعا، فلم يتحرج الحكيم عندما يقول عن بني جلدته: «إن الشمس والقمر في هذه البلاد يعملان عمل الخياطة البارعة، فهما يلبسان الكائنات -بسخاء- أثوابا جديدة مختلفة رائعة الألوان! إلا الفلاح.. فقد خرج من الحساب، لأن أمر لباسه ليس من اختصاص الشمس والقمر، نعم.. كل شيء نظيف جميل في هذا الريف إلا الإنسان»[19]. بل ولم يتورع كذلك عندما يشبه الفلاح المصري بالجاموس الأبيض[20]، والمرضى في الريف بالقردة[21]، وعيش الفلاحين بعيش السائمة[22]، ومساكنهم بأوكار الوحوش[23].
ثم نلاحظ أن هناك أمرا آخر يستلفت النظر، وهذا الأمر هو إسراف الأستاذ الحكيم في نقده للفلاح والمرأة، وليس هناك شيء أدل على ذاك الإسراف غير رواية «حمار الحكيم» التي نحن بصددها، قال عن الفلاح مثلا: «ولئن كنت قد أحببت كثيرا روح الريف البريئة ونفس الفلاح السمحة الكريمة، فإني كرهت وأكره مظاهر الريف القبيحة، وحياة الفلاحين القذرة»[24]. وعن المرأة قال: «سألتني العلة في قذارة هذا الفلاح، فقلت لك وأقول وسأقول دائما العلة هي المرأة، يوم تتخلص المرأة المصرية من روح الجواري البيض، وتتقمص روح السيدات؛ تعال انظر عندئذ إلى الريف المصري والفلاح المصري»[25]. ولعل العلة في ذلك أن أوضاع الفلاح والمرأة هي التي أخذت حظا كبيرا في إقلاق الأستاذ الحكيم، ومن ثم خصهما بالإسراف في نقدهما، بل وبالسخرية منهما.
ثم لم يزل هناك سؤال واحد لم نجب عنه، ألا وهو إلى أي حد تتطابق فكرة الأستاذ الحكيم في أن العلة في تخلف المصريين هي افتقادهم «السيدة» بالمعنى الأوروبي للكلمة - مع الواقع المعاش والحقيقة التاريخية؟ والحق أن الإجابة عن هذا السؤال لا يحتاج إلى جهد إذا فهمنا عقلية الأستاذ الحكيم فهما جيدا.
فطبيعته الفكرية التأملية الانعزالية هي التي تحول بينه وبين النقد الذي تنبني على أساس الخبرة والتجربة، وقد يكون صحيحا بعض الشيء أن قباحة الريف وقذارة الفلاح مِن مرجعهما المرأةُ، ولكن أن تكون المرأة هي العلة الوحيدة في كلتيهما كما ارتأى الأستاذ الحكيم؛ فهذا شيء منه عجيب. ونحن لنستطيع أن نقطع بأن رأيه ذاك لا ينبني على ملابسة الواقع المعاش وعلى الخبرة والتجربة في شيء، ونستطيع أن نقطع بأن رأيه إن هو إلا صورة تعكس عالمه الشخصي المثالي المحدود الذي لا يعرف من الاستقراء شيئا.
فلمَ لا يرجع الأستاذ الحكيم بعض أسباب قباحة القرية وقذارة الفلاح إلى سياسة الحكومة الفاسدة حينذاك مثلا، التي تتولى شئون التربية والتعليم، فتستطيع الحكومة أن تعيد للناشئين من القرويين ونسائهم وعيَهم بأهمية النظافة وبأهمية الحياة النظيفة. وإن لم تكفها التربية والتعليم فإنها تستطيع بسلطتها أن تفرض لهم النظافة والحياة النظيفة في الأماكن العامة على الأقل.
ولـمَ لا يرجع الأستاذ الحكيم بعض أسباب قباحة القرية وقذارة الفلاح إلى رجال الدين مثلا، الذين عرفوا بتمسكهم بدينهم وتمكنهم في العلوم الدينية، فمن المفروض بمقتضى هذا التمسك وذاك التمكن أن يكونوا في طليعة الناس الذين يعتقدون بأن النظافة والحياة النظيفة ليستا واجبتين إنسانيتين فحسب، وإنما هما واجبتان إيمانيتان، ونظرا إلى أن لرجال الدين دورا عظيما في توجيه المجتمع المصري، فإنهم -بقباحة الريف وقذارة الفلاح- يتسحقون النقد واللوم لتقصيرهم في تحريض المجتمع على تحقيق النظافة والحياة النظيفة.
إذن هناك عوامل عديدة تتفاعل وتتداعم على قباحة الريف المصري وقذارة الفلاح، ولا يصح -بمقتضى كثرة تلك العوامل- أن تُرجَع العلة فيهما إلى المرأة وحدها، سواء من حيث نفسيتها أم من حيث عقليتها. إن «السيدة» بالمعنى الأوروبي للكلمة التي يقصدها الأستاذ الحكيم -في رأينا- إن هي إلا نتيجة حتمية للتعليم الصحيح والتربية الناجحة، وإذا كانت المرأة المصرية المتعلمة لم تهتم بعد بإصلاح المجتمع، فإن العلة إنما ترجع إلى التعليم العقيم والتربية الفاشلة، فظهرت المرأة المصرية أنها بدلا من أن تفكر في إصلاح المجتمع والانشغال بواجبها الحقيقي، انصرفت عنه وأخذت تتقن -بمقتضى الوقت الذي كتب فيه المؤلف روايته- «الظهورَ في الحفلات ودور السينما والولائم والرطن ببعض اللغات»[26]. وهذا فضلا عن مجارات المرأة الأوروبية في دورها البارز الفعال في الإصلاح الاجتماعي.
وبعد، فتلك نظرات في نقد الأستاذ توفيق الحكيم للمجتمع وفي فكرته، ومهما يكن من شيء فإن ما قدمناه لك لا ينقص من قدر الأستاذ شيئا، فهو من هو في منزلته الأدبية الرفيعة، أضف إلى ذلك أن كبار الأدباء في العصر الحديث قد تسابقوا في إكباره لإبداعاته وابتكاراته، قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي مثلا بعد أن صدر الحكيم مسرحية (محمد): «وحسبُ المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذَّب السيرة تهذيبا تاريخيا على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيبا فنيا على نسق الفن»[27]. وقال الدكتور طه حسين عن مسرحية (أهل الكهف) للأستاذ الحكيم: «أما قصة (أهل الكهف) فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي المصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله. وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن»[28]. وقال الدكتور محمد حسين هيكل عندما قرأ مسرحية (شهرزاد) للأستاذ الحكيم: «أريد أن أقنع بأن الفضل في اغتباطي ثم في إعجابي يرجع إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الحديث الذي يجاري أحدث أطوار الفن في أوروبا»[29].

الخاتمة
إن نظرة عامة إلى ما عرضناه لك، ترينا أننا لم نتناول إلا ما تيسر لنا تناوله، وما اتسع له صدر بحثنا، فإن هناك جوانب كثيرة من رواية «حمار الحكيم» تستحق العناية بالدرس والتحليل؛ أمثال الجانب الفني، والجانب النفسي، والجانب التاريخي، إلخ..
وأيا ما كان الأمر فإنا قد حاولنا ما وسعتنا المحاولةُ أن نستخلص كل ما يهمنا حتى نصل إلى الغاية المرجوة من هذا البحث، وأن نتجرد من كل ما يحول بيننا وبين الحق والإخلاص له. ومن ثم فكل ما وصلنا إليه في هذا البحث هو ما نعتقد أنه حق، ونقتنع بصوابه، ويطمئن إليه بالنا.
وإليك ما وصلنا إليه من النتائج في بحثنا:
1.   إن رواية «حمار الحكيم» في نظرنا من روايات التجربة الشخصية التي يرتكز محورها الرئيس على تجربة عاناها المؤلف، حيث كان بطلها، ومدار أهم أحداثها، وحيث كانت تلك الأحداث تمثل جزأً من حياة البطل أو صفحة من حياته.
2.   إن الأحداث في الرواية بسيطة جدا، لأن كون تلك الرواية رواية التجربة الشخصية تقتضي قلة العقدة، التي يمكن أن تجعل الأحداث صعبة معقدة كما كانت الحال في الروايات التحليلية، وتقتضي عدم العناية بعنصر التشويق، والعلة في ذلك أن المؤلف لم يرد إلا سرد تجربته الشخصية وإقناع فكرته الذهنية في قالب روائي، ومن ثم رأيت الحديث على لسان البطل -وخاصة «الكاتب»- فيها يسرف في الطول، لأنه هو وحده وسيلة المؤلف لإبداء تجربته وفكرته.
3.   إن من التجربة الشخصية في هذه الرواية محاولة المؤلف معرفةَ العلة التي تجعل المصريين في الأرياف باتوا متخلفين، ذاك التخلف الذي تمثل في حياتهم تلك القذرة، وفي ذوقهم ذاك السقيم، وفي مظاهر أريافهم تلك القبيحة.
4.   رأى المؤلف -من خلال تجربته، وقراءته لتاريخ مصر في كل العصور، ولتاريخ الأمم المتقدمة في أوروبا- أن العلة في ذلك التخلف هي افتقاد المصريين «السيدةَ» بالمعنى الأوروبي للكلمة. إنها السيدة التي يجري في عروقها دم الحرية والسيادة، فتشعر في نفسها دائما بأنها تحمي شيئا وتدافع عن إنسان، فتجعل من عملها الطبعي ومن واجبها القومي أن تحمي الفقراء والأطفال والمرضى والبيئة. وهذه المرأة -في نظر المؤلف- لم توجد بعد في مصر، سواء في الأرياف أم في المدن، ولغيابها هذا كانت قذارة حياة المصريين، وقباحة مناظر بيئتهم، وسقامة ذوقهم.
5.   إن الأستاذ الحكيم أسرف في نقده للفلاح والمرأة لأن أوضاع الفلاح والمرأة هي التي أخذت حظا كبيرا في إقلاق الأستاذ الحكيم، ومن ثم خصهما بالإسراف في نقدهما، بل وبالسخرية منهما.
6.   إن الطبيعة الفكرية التأملية الانعزالية للأستاذ الحكيم هي التي تحول بينه وبين النقد الذي ينبني على ملابسة الواقع المعاش وعلى الخبرة والتجربة ، ومن ثم رأينا نقده يعلوه الإسراف بل والمجازفة، فإن نقده إن هو إلا صورة تعكس عالمه الشخصي المثالي المحدود الذي لا يعرف من الاستقراء شيئا.
7.   إن هناك عوامل عديدة تفاعلت وتداعمت على قباحة الريف المصري وقذارة الفلاح، ولا يصح -بمقتضى كثرة تلك العوامل- أن تُرجَع العلة فيهما إلى المرأة وحدها، سواء من حيث نفسيتها أم من حيث عقليتها، إن «السيدة» بالمعنى الأوروبي للكلمة التي قصدها الأستاذ الحكيم -في الحقيقة- ما هي إلا نتيجة حتمية للتعليم الصحيح والتربية الناجحة، وإذا كانت المرأة المصرية المتعلمة لم تهتم بعد بإصلاح المجتمع، فإن العلة إنما ترجع إلى التعليم العقيم والتربية الفاشلة.
وبعد، فتلك هي النتائج التي وصلنا إليها، فإن أصبنا فحمدا لله تعالى، وإن أخطأنا فحسبنا أننا قاصدون الحق، والله تعالى أعلى وأعلم.

ثبت المصادر والمراجع
·    الحكيم: توفيق، حمار الحكيم، القاهرة: دار الشروق، ط5، 2014م.
·    _____، سجن العمر، القاهرة: مكتبة الآداب، دت.
·    _____، يوميات نائب في الأرياف، القاهرة: دار الشروق، ط6، 2014م.
·    شوشة: محمد السيد، 85 شمعة في حياة توفيق الحكيم، القاهرة: دار المعارف، 1984م.
·    ضيف: شوقي، الأدب العربي المعاصر في مصر، القاهرة: دار المعارف، ط15، 2011م.
·    القاضي: مصطفى عبد الرحمن، دراسات في الأدب العربي الحديث، القاهرة: مكة للطباعة، ط1، 2014م.
·    هيكل: أحمد، الأدب القصصي والمسرحي في مصر، القاهرة: دار المعارف، ط4، 1983م.
·    مجلة الرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات. 




[1] محمد السيد شوشة، 85 شمعة في حياة توفيق الحكيم، (القاهرة: دار المعارف، 1984م)، ص8.
[2] توفيق الحكيم، سجن العمر، (القاهرة: مكتبة الآداب، د.ت)، ص16.
[3] المصدر السابق، ص77.
[4] شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، (القاهرة: دار المعارف، ط15، 2011م)، ص288.
[5] المصدر السابق، ص67.
[6] شوقي ضيف، الأدب العربي المعاصر في مصر، ص288.
[7] المصدر السابق، ص288-289. (بتصرف)
[8] توفيق الحكيم، سجن العمر، ص229. (بتصرف)
[9] المصدر السابق، ص268-269. (بتصرف)
[10] محمد السيد شوشة، 85 شمعة في حياة توفيق الحكيم،  ص107. (بتصرف)
[11] انظر مثلا حديثه في «سجن العمر» عن أنه ليس رجل مجتمعات، وإعراضه عن إلقاء الكلمة في الاجتماعات (ص256).
[12] أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر، (القاهرة: دار المعارف، ط4، 1983م)، ص149.
[13] طبعت سنة 1940م.
[14] هي أولى روايات توفيق الحكيم، مكونة من جزأين، طبعت سنة 1933م.
[15] طبعت سنة 1937م.
[16] توفيق الحكيم، سجن العمر، ص256.
[17] المصدر السابق، ص67.
[18] أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر، ص368.
[19] توفيق الحكيم، حمار الحكيم، (القاهرة: دار الشروق، ط5، 2014م)، ص66.
[20] توفيق الحكيم، يوميات نائب في الأرياف، (القاهرة: دار الشروق، ط6، 2014م)، ص51.
[21] المصدر السابق، ص42.
[22] المصدر السابق، ص26.  
[23] توفيق الحكيم، حمار الحكيم، ص44.
[24] المصدر السابق، ص37.
[25] المصدر السابق، ص72.
[26] المصدر السابق، ص71.
[27] مجلة الرسالة، العدد 136، بتاريخ 10/2/1936م.
[28] مجلة الرسالة، العدد 9، بتاريخ 15/5/1933م.
[29] مجلة الرسالة، العدد 42، بتاريخ 23/4/1934م.