من للعربية بعد العميد؟

عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين
ليس من الغريب في شيء أن اتسعت آفاق المعرفة، وتعددت روافد الثقافة في يومنا هذا. ومن ثم فليس عجيبا أن نقابل أي شخص مهما تكن طبقاته وتخصصاته؛ فإذا هو يحدثنا عن أشياء كثيرة في العلوم والفنون وأحدث الحوادث في العالم حديثَ الخبير المجرب. بل العجب كل العجب أن نلقى شخصا فإذا هو فارغ العلم، خاوي الثقافة، ضيق الأفق، لا علم له بإحدى لغات العالم؛ في وقت تكون المعلومات فيه نصب العين، وفي متناول كل من أراد.
ومع توفر هذه المعلومات عند كل الناس - علاوة على المثقفين؛ تنقصهم للأسف سعة الفجوة بين مستوى ما يعرفون، ومستوى ما يعبرون به عما يعرفون، أو عما يفكرون، أو عما يختلج في داخلهم. ومرد ذلك واضح بينٌ يتراءى لنظرة عابرة ساذجة؛ ألا وهو الغض من شأن العربية، فتفتر العزيمة على التزود بأبسط ما يجعل العربي صاحب لسان فصيح وتعبير جميل؛ ينصت الناس إليه مهما يطل حديثه، ومهما يتشعب موضوعه، ذلك لأنه جعل سمعهم مسحورا مذعنا وقلوبهم مأخوذة منقادة. 
على أننا قد نغمض العين عن تقصير العامة في الاهتمام بلغتهم، لانشغالهم المتواصل بما يقيمون به الأود في كل ميادين الحياة.. أما أن يجاري العلماء والمثقفون العوام في إهمال العربية الفصحى - بل وفي هجرها؛ فهذا إنذار بالويل المستطير لمستقبلها، وإشارة إلى أن حان لظلام حالك ونازلة كبرى أن يلمان بأرجاء العروبة. 
صحيح أن هناك مستويات خمسا للغة العربية المعاصرة كما صنفها الدكتور السعيد بدوي في كتابه القيم «مستويات العربية المعاصرة في مصر».. بيد أن نظرة عابرة في وسائل الإعلام والمنابر والمساجد والمدرجات يومنا هذا؛ ترغمنا إلى الاعتراف بحقيقة لا انفلات لنا منها مهما تكن محاولاتنا.
وهذه الحقيقة، إلا تكن مؤلمة موجعة، فهي على أقل تقدير تثير في نفوسنا دوام الإشفاق على وضع لغتنا العربية، ذلك لأنها لا تبطل تصنيف الدكتور السعيد وحده، بل لأنها تحرم -أو تكاد تحرم- العربية الفصحى المنطوقة المنيعة من اللحن؛ من الوجود. فعلماء الدين والأساتذة والمثقفون والأدباء والنقاد في عصرنا؛ يؤثرون الحديث بالعامية إيثارا، ويتوغلون فيه توغلا.. وإذا يتحدثون بالفصحى؛ لم يكادوا يشرعون في الحديث حتى يتسرب إلى ألسنتهم لحن -وا أسفا- يثير المقت والازدراء. 
فالعربية لم تكن في العصر الحديث تفجع في شيء مثل فجعه في طه حسين رحمه الله، إذ استحالت بموته الغيرةُ على العربية والتعصبُ لها زعما وادعاء، بعد أن كانت على يديه قولا محققا وفعلا مجسدا، غير حافل أفي جد هو أم في هزل، أطال حديثه أم قصر. ألا ترانا -ونحن نقرأ «حديث الشعر والنثر»- قد ملكنا الإعجاب والإكبار لفصاحة العميد، واقتداره على أن يقف ساعات طوالا باقيا على فصاحته إلى نهاية المحاضرات، دون أن يجد اللحن إلى لسانه سبيلا، أو العامية إلى حديثه طريقا. ناهيك عن طرافة مضمون تلك المحاضرات وقيمته، أو ناهيك عن قوة حفظ العميد وذوقه الأدبي الرفيع، أو ناهيك عن موسيقى أسلوبه الساحرة الممتعة وسلاسته.


بيد أن اللافت للنظر هو أن روعة حديث العميد لا تتوقف عند إلقائه إياه؛ حيث ذهبت روعته بانتهاء صاحبه من الإلقاء، فلما تعود إلى حديثه غدا أو بعد غد لتقرأه؛ فاتتك تلك الروعة، لافتقاده نبرات صاحبه وإشاراته أثناء الإلقاء. كلا! بل ظل حديث العميد -ولو أعدت قراءته مرات عديدة- رائعا ممتعا بتناوب موسيقاه وعذوبته، فضلا عن طرافة مضمونه. 
وهذا الذي أعنيه سيكون واضحا عندما تقارن بين ما فيك من شعور وانفعال حين تصغي إلى حديث الإمام الشعراوي البليغ، وهو يفسر آية الذكر الحكيم؛ وبين ما فيك من شعور وانفعال حين تتصفح تفسيره للآية نفسها. ألا ترى البون شاسعا جدا بين الأول والثاني؟ ألا تراك تسمو إلى السماء فكأنك من أهلها في الأول، وأنت في الثاني لا تكاد تجد من السمو والمتعة ما وجدته في الأول؟     
ونحن في يومنا هذا نعيش حياة أدبية معظمها ظلام إن لم نستطع أن نقول كلها ظلام، فلم نعد نرى أديبا -فضلا عن غير الأديب- يعلن أمام الملإ أنه للعامية أو لركاكة التعبير خصم لدود قولا وفعلا كما كان عليه العميد. ثم إذا أمعنا النظر في المنتجات الأدبية في الآونة الأخيرة، رأينا كما هائلا منها -وبالخصوص الرواية- قد شابته العجلة فحرمه لذة النضج، وداسه التسرع فمنعه روعة العمق. بيد أن عدم نضجها أو عمقِها ليس بشيء؛ إذا قيس بما في لغتها (أو قل: سردها) من ركاكة لا تحتمل، بل واضطراب يزهدنا في قراءتها فضلا عن دراستها.
على أن لهذه الظاهرة المحزنة مسوغا ليس في وسعنا الغض عنه، وهو أن مقياس التميز والرواج في كل المجالات في عصرنا هو السرعة. فأضحت الأنظار تتجه إلى كل شيء سريع وإن كان تافها، وأعين الناس اليوم لا يعجبها إلا ما هو أسرع وإن كان خفيف الوزن. إذن فلا بد أن تترك تلك الظاهرة المؤلمة آثارا سلبية، أقلها أنها ترغب الناس في الأدب الرخيص وتزهدهم في الأدب الرفيع، وأنها تحرم النشء من الذوق السليم وتعوقهم عن التقدم والرقي.
ولنا في ختام حديثنا أن نطرح أسئلة: إلام هذا التغاضي عن ضياع العربية الفصحى أمام أعيننا، وهذ الرضا عن تخلفنا في اللغة والأدب؟ ألم يأن لنا أن نهتم بلغتنا العربية اهتماما قبل فوات الأوان؟ ألم يأن لنا أن نستحيي من ضعفنا في لغتنا فنتزود بما يجعلنا أصحاب لسان فصيح وتعبير جميل؟ ألم يأن لنا أن نطمح في أن نكون خيرا من طه حسين رحمه الله في تعصبه للعربية الفصحى، وفي اقتداره على امتلاك زمام العربية، وفي تضلعه من العلم والفكر والثقافة، وفي تمكنه من اللغات الأجنبية؟ []

مدينة البعوث الإسلامية، ٢٧ أكتوبر ٢٠١٨
أحمد سترياوان هريادي
إندونيسي الجنسية: باحث في الأدب والنقد (الماجستير) بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر.

* نشرت هذه المقالة ملخصة في مجلة الأزهر، عدد نوفمبر ٢٠١٨م

0 comments:

إرسال تعليق