عظمة المتنبي من منظار العقاد - 1

صورة العقاد رحمه الله في شبابه
ما كان العقاد حين بدأ يقرأ ديوان المتنبي وشروحه قراءة البصير المتأني؛ إلا معملا فكره كله في أي ناحية من نواحي أبي الطيب المتشعبة جديدة، سيكون له بسبب تطرقه إليها حظ من الطرافة والأصالة والتميز. ذلك لأن العقاد ما كان يقتنع يوما بأن يكون لما يقرأ عارضا ناقلا، أو جامعا مقررا؛ دون أن يكون له ما يبرز شخصيته من طريف الرأي، أو جديد الاتجاه، أو أصيل الاجتهاد. وفعلا..
إن قراء العقاد -والمعجبين لآثاره خاصة- لعلى تمام الوعي لما استهللت به مقالي هذا؛ إذ لم يكد قارئ مثقف واع يدخل دنيا العقاد عبر كتبه، حتى وجد نفسه في عالم يعلوه طموح جامح إلى التميز، وتسوده رغبة ملحة في التغلب. هذا ما يتعلق بالعقاد نفسه. أما ما يتعلق بمحتوى ما كتب؛ فإن هذا القارئ المثقف الواعي لا يسعه إلا أن يقر له بهذا التميز وذاك التغلب، وألا يخرج من دنياه إلا وهو على اقتناع بأن العقاد عالم وحده، ونسيج وحده؛ في القراءة والتفكير والرؤية والاتجاه.
وهذا الطابع واضح جدا حينما يخوض العقاد ميدانا، يُظن أن من العسير -بل المستحيل- لكاتب أو لباحث أن يأتي فيه بجديد شائق أو طريف رائق؛ ألا وهو ميدان سيدنا رسول الله عليه السلام. فقد مضت ثلاثة عشر قرنا ولم يدخر العلماء وسعا -مسلمين كانوا أم غير مسلمين- في عرض الفكرة وبسط الحديث عن أعظم إنسان في التاريخ؛ ولم يألوا جهدا في استكشاف أسرار الشخصية النبوية الفذة الممتازة، وسبر أغوار القدرات الروحية المحمدية الخارقة.
لكن العقاد لم يكد يقبل هذا التحدي ويخوض غماره، حتى خرج منه منتصرا. أجل، إن كل ما ورد في «عبقرية محمد» من الحوادث والأخبار والروايات معروف لا جديد فيه. بل الجديد فيه -كما قال أحد النقاد- «هو عرضه واستخدامه واستخلاص النتائج منه. وهو اختيار الحادثة المناسبة في موضعها المناسب. ومن هذا كله تبدو الحوادث والروايات والنصوص في مواضعها وكأنها جديدة هناك، يطالعها القارئ لأول مرة، ويخطر له من معانيها في مواضعها هذه ما لم يخطر له قط وهو يراها من قبل مرة ومرة»[1].
هذا ما يتعلق بما لم يتعب فيه القلمُ ويُرهَق بالبسط والتحليل والتنقيب؛ كتعبه وإرهاقه بالبسط والتحليل والتنقيب عن عبقرية الرسول عليه السلام أعظم العظماء، صاحب عظمة العظمات. أما ما دون ذلك مثل البحث في المتنبي وشاعريته ودورانه بين الناس؛ فالأمر للعقاد -بلا شك- هين ميسور. ترى، ماذا فعل العقاد بالمتنبي؟ أله ما يروقنا حينما بسط الكلام عليه؟ أمصيب هو فيما ارتآه حول المتنبي وعظمته؟ ما مدى التقارب أو التخالف بين رأيه في المتنبي وبين آراء من كتبوا عن المتنبي أمثال الدكتور طه حسين وتلميذه الأستاذ محمود شاكر؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها في المقال القادم بإذن الله.

القاهرة المحروسة، 12 فبراير 2018م
أحمد سترياوان هريادي




[1] مجلة الرسالة: العدد ٤٦٩، بتاريخ ٢٩ يونيو ١٩٤٢م.

0 comments:

إرسال تعليق