ما الذي تحتاج إليه اللغة العربية؟

بقلم: أحمد سترياوان هريادي
لا شيء أدعى إلى الكمد والأسى من عدم تمكننا في لغة نزل بها كتاب ربنا، ولا شيء أدعى إلى التحسر والحزن العميق من أن نرى أنفسنا عاجزين أيما عجز عن فهم مراد ربنا في كتابه المعجز وفي سنة نبيه المطهرة، ولا شيء أدعى إلى مظهر يستحسن فيه أن نكون ترابا من أن نرى أعداء الإسلام أكثر منا اهتماما بلغة كتابنا، بل أشد منا إلماما بها وبآدابها، حتى ليصبحوا أحق الناس بالإمامة فيهما منا -معشر العرب والمسلمين- طوعا أو كرها.
وهذا المظهر الكئيب يزداد كآبة عندما نرى أنشطة أعداء ديننا في لغة كتابنا أخذت تنمو وتنهض، وأخذت تؤتي أكلها وتحقق فيها إمامتهم، بينما العرب والمسلمون -في الوقت نفسه- في نوم عميق وفي غفلة داجية. فما ظنك إذن إذا كان الأعداء يفرطون في النشاط ويلحون في الإفراط، بينما نحن المسلمين مقصرون في النشاط ومغرقون في التقصير؟! أفلا يكون إذن مرير العقبى نتيجة حتمية نتعرض لها، فأصبحنا محتلين علميا وثقافيا، وغدونا لهم -رضينا أم أبينا- تَبَعًا لهم، منقادين لأحكامهم ونتائج أبحاثهم في لغة كتابنا وآدابها؟!
أضف إلى ذلك أن اللغة العربية الفصحى لم تعد لها من شأن بين أهلها، فهناك أناس يزعمون أنهم عرب والعربية منهم بريئة كل البراءة، فلو كان للعربية الفصحى من شأن عندهم لما رأيناها مهملة كأسوأ ما يكون الإهمال. فإذا بالعربية الفصحى لم تعد توجد إلا في المنابر والمحافل الرسمية وفي بعض حلقات الدروس الدينية، أما ما عدا ذلك فتبقى مخطوطة محفوظة في كتاب الله وسنة نبيه المطهرة، وتبقى مستخدمة في كتب العلماء والأدباء والمثقفين قديما وحديثا، وفي بعض الصحف وإن بعدت عن كل ما نتمناه من رقي في المستوى.
ولو كان للعربية الفصحى من شأن عند هؤلاء الزاعمين، لجعلوها مفخرة وقدسوها تقديسا، بل وضحّوا  في سبيلها تضحية كما فعل الأمم الراقية إزاء لغاتها، وبذلوا ما وسعهم من جهد وطاقة وإمكانية في تخطيط البرامج الفعالة المؤدية إلى شيوع الفصحى في الأوساط العامة، حتى لتصبح لغة يومية لا خلل فيها ولا شلل، كما كان شأن اليابانية مثلا عند أهلها وكذا الإنجليزية والفرنسية.
 ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين صور سوء حظ العربية بين أهلها أتم التصوير فقال على لسان اللغة العربية:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ  لَفْظًا وَغَايَةً * وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيْقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ * وَتَنْسِيْقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ
فَيَا وَيْحَكُمْ أَبْلَى وَتَبْلَى مَحَاسِنِيْ * وَمِنْكُمْ وَإِنْ عَزَّ الدَّوَاءُ أَسَاتِي
أَرَى لِرِجَالِ الْغَرْبِ عِزًّا وَمَنْعَةً * وَكَمْ عَزَّ أَقْوَامٌ بِعِزِّ لُغَاتِ
أَتَوْا أَهْلَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ تَفَنُّنًا * فَيَا لَيْتَكُمْ تَأْتُوْنَ بِالْكَلِمَاتِ
هذا، فما أحوج العربية إلى من يواسي وحشتها ويؤانس غربتها بين أهلها، وما أحوج العربية إلى من يبدي للعالم أجمع أنها -كما قال حافظ- «بحر في أحشائه الدُّر كامن»، وما أحوجها إلى من يعيد مجدها القديم حيث كانت في طليعة لغات للعلم والفكر والثقافة والحضارة، وما أحوجها إلى من يأخذ بزمامها فيعود بها إلى عالم الوجود بعد أن كانت مدفونة في مقابر الإهمال، وما أحوجها إلى أناس مخلصين يقومون ليلا ونهارا بإعلاء شأنها بين الناس، وصيرورتها محببة إلى أنفسهم، فأصبحت هدفا إليه يسعون، وقمةً إلى بلوغها يتسابقون.
أجل، إن العربية في حاجة ماسة إلى هؤلاء المحتسبين من الأدباء والخطباء والشعراء والكتاب والمحررين.. ما أحوجها إليهم!  فهم الذين لا تعنيهم إلا مرضاة ربهم، فيكون شعارهم دائما في سعيهم: ▬وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِيْنَ♂، وهم الذين مهما تكن الظروف لا يجد المللُ إلى أنفسهم سبيلا، لأنهم يعون تمام الوعي أن خدمتهم للعربية من أبرز ما يتقربون به إلى مولاهم سبحانه، فلا يبتغون من الناس جزاء ولا شكورا مقابل ما بذلوه من جهد في سبيل إعلاء شأن العربية.   
وهم الذين يواظبون على ملء قلوب الناس ولفت أنظارهم وقرع أسماعهم بأروع ما يبدعون من ضروب المنظوم، وبأحسن ما ينتجون من صنوف المنثور، وهم الذين لا يهمهم إلا العمل والمثابرة عليه، فلا يستوقفهم أيقبل الناس على صنيعهم أم يعرضون عنه، ولا يستوقفهم أيقدّر الناس جهودهم الجبارة أم يستخفون منها، ولا يستوقفهم أيعترف الناس بتراث قرائحهم وعجيب مواهبهم أم يتجاهلونهما. []

الحي السابع، 19 أكتوبر 2014م

هناك تعليق واحد:

  1. أجل يا صديقي! إنّ العربية في أمسّ الحاجة إلى من يواسي وحشتها ويؤانس غربتها بين أهلها . فلنكن نحن من بين هؤلاء الّذين يواصلون الليل بالنهار في سعيهم الدؤوب لإعادة صرح مجدها القديم حيث كانت في طليعة لغات للعلم والحضارة .

    و لله درّ الشيخ فتحي الحجازي ، ما أبعد نظره وما أثقب فهمه حين قال لنا في إحدى محاضراته العلمية: "وإن كانت العربية—نحوها ، وصرفها ، وبلاغتها—في صورتها الظاهرةِ القواعدَ البشريةَ التى وضعها وابتكرها علماء اللغة كأبي الأسود الدؤلي ، والخليل بن أحمد ، وسيبويه ، إلاّ أنها في حقيقتها القواعد الإلهية نزلت من لدن ربّ العالمين لحماية لغة القرآن من التحريف".

    ردحذف