الرياسة: حديث لا ينقطع

بقلم: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
إن النفس الإنسانية قد طُبِعَتْ على رغبة ملحة في الرياسة، فلا نكاد نجد ثانية الحياة خَلَتْ، إلا وموضوع الرياسة قد سيطر على مجالس الناس، فصار محورا لأحاديث الاجتماع رئيسا، ومدارا لتطبيق مهارة الجدال رحيبا، ولنعلم كذلك أن الرياسة وحدها منطلق الفُرقة الطائشة، والعنصرية الجامحة، وبها الحروب لا تعرف مصيرا، والسلام لا يجد سبيلا، ومنها الشقاء المؤبد، والخوف المخلد.
وهنا نرى كيف أصبحت الرياسة أكبر الهم، ومبلغ العلم، وحاجة الحوائج.. ونرى كذلك كيف صارت الرياسة الدافع الأكبر لمعظم تصرفات الإنسان، فها هو ذا الأستاذ «ماكليلاند» الأمريكي من خلال نظرية الحاجة في كتابه «مجتمع الإنجاز»، أثبت أن الحاجة إلى الرياسة من أحد الدوافع الثلاثة لما عليه الإنسان من الأعمال، بجانب الحاجة إلى الانتماء والإنجاز.
ونريد في هذه المناسبة أن نمعن في حقيقة الرياسة أنظارَنا، والحق أن الرياسة يحسُن استخدامُها فتكون العدل والتقدم، ويقبُح فتكون الاستبداد والتخلف، ففي حسن استخدامها فجر يُشرِق، وظلام يَبِيد، وإنسان يُكرَّم، ومساواة تُحقَّق، وجهاد يدوم، وشعب يُنتِج، وأمة تسيطر، وتاريخ يعطر.. وفي قبح استخدامها ذلُّ العيش، وفساد الأوضاع، وشقاء الأبد.
يزداد أمل الإنسان طولا في نيل الرياسة، لكنه يفتقد وعيَه وفقهَه أن في الرياسة متاعبَ لا تُقدَّر، فيراقب كل وسائل توصله إلى قمتها، ولا يبالي بكثرة أموال تُنفَق، ومنتهى جهود تُبذَل، فحديث أنفاسه ودقات قلبه هو الرياسة وحدها، فيهمه كلُّ شيء يتعلق بها، ويشتهي الخوضَ في سماعه ومتابعته، أما الأشياء التي لا تتعلق بها فتصبح عنده هباء منثورا.. ذلك لأن الذي ملأ خاطره أن في الرياسة تكريما للنفس، وتقديرا للذات، وتاريخا يُكتب، وذكرا يَبقى.
لكن هذا الحريص على الرياسة أهمل أغلى شيء يملكه عندما يتولى زمام الأمر، ألا وهو عيش يرخو، ونفس تطمئن، ذلك لأن لهما ارتباطا متعاكسا بالرياسة ، ولا يشعر بهما إلا عند فقدههما، فكأنهما شيء يضَحِّي به كل من يريد الغوص في الرياسة..
صحيح أن في الرياسة نعيما يتدفق، وتكريما يتحقق، لكن لا قيمة لهما إذا افتقد العيش رخاءه، والنفس اطمئنانها.. فماذا ستفيده رياسته إذا كانت نفسه في كل وقت تتعرض لفجأة الاغتيال، وعيشه في كل لحظة يتمحور في مطالب لا تنقطع وحوائج لا تنتهي؟! وكيف يتمتع برخاء العيش إذا كانت حياته محدودة الحركة، وأيامه محبوسة الأنفاس؟! وأنى يكون لنفسه الاطمئنان إذا كان عيشه مليئا بالتصنع في حركاته وكلامه وابتساماته؟!
وعلى الجملة، إن الرياسة تفترض على كل من يملك زمامها أن يتحلى بالمظاهر الكاذبة، فأصبحت شخصيته غير الشخصية، وطبيعته غير الطبيعة، وحياته غير الحياة، ونفسه غير النفس، ومنطقه غير المنطق، إلا من عصمه الله تعالى.
ومن أعجب ما رأينا في الإنسان أنه مولع بشيء يشق عليه، فها هي ذي الرياسة (أعني رياسة الأمور العظام) بما فيها من مشاق لا قِبَلَ لها، لكن الإنسان مولع بها وحريص عليها، فهي -في نظر الناس- وسيلة للترقي اجتماعيا، وفرصة للبقاء ذكريا، فهل يوجد أحد لا يريد كليهما بطبعه؟ كلا! وما أظن أن هناك حيوانا لا يريد السيطرة على غيره فيرتضي الذل والهبوط.. وإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بالإنسان الذي هيأ الله له كل الإمكانيات ليكون بها أسمى خلق الله جميعا؟!
هذا نظر الناس.. أضف إلى ذلك أن الرياسة أصبحت عندهم مغنما، يسعون جاهدين إلى الحصول عليه، وأضحت المناصب والوظائف ثراء، يتهافتون عليه تهافت الفراش عل الضوء.. ومن ثم، فلا عجب إذا رأيناهم يتخذون الرياسة وسيلة لإشباع مطامعهم النفسية ورغباتهم الفردية، وإذا كانت خزينة المرء -قبل توليه زمام الأمر- تكاد تخلو، فصارتْ بعد سنين قلائل من توليه مليئة هائلة، فالناس من الجوع والعطش موتى، وأصحاب الرياسة من الفساد والاستبداد أحياء.
ونحن إذا أردنا أن نعود إلى تعاليم ديننا، لنجدها تفارق وجهة نظر الناس تجاه الرياسة تمام المفارقة، فها هم أولاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتحرجون من تقلد أي منصب مع تمام كفاءتهم، وكانوا لا يزالون في وَجَلٍ وتردُّدٍ عندما يذكون قول الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ولا يزالون هائجين بما في الرياسة من الأعباء الثقال، إلا أن عظمة المسئولية فيها أمام الله تعالى لعل أكثر تضييقا لصدورهم ومعايشهم عندما يتولون أمرا من أمور المسلمين، فيحسون دائما بأن الله تعالى ابتلاهم بالرياسة وأعبائها، طبقا لقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾، ويمثل هذا الإحساس قول عمر رضي الله عنه بعد توليه الخلافة: «إن الله قد ابتلاني بكم وابتلاكم بي».
وإذا كان هذا أمرهم، فأنى يكون لهم التشرف بالرياسة كما كان عليه الناس في يومنا الحاضر؟! شتان!
فإن الناس اليوم لايتحرجون من أن ينفقوا الأموال العريضة ليصلوا بها إلى الرياسة وينشروا دعاية لها، ولا يخجلون من الله تعالى عندما يزكون أنفسهم، فيزعمون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، بل ولا يتضيقون من استغلال الدين ما استطعوا إلى نجاح دعايتهم سبيلا، ولا سيما بعد تقلدهم الرياسة، ولله دَرُّ الشاعر الموفَّق عندما يقول:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّيْنَ إِلَّا الْمُلُوكْ  * وَأَحْبَارُ سُوْءٍ وَرَهْبَانُهَا
والله تعالى أعلى وأعلم!
مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 25 مارس 2014

أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي
طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر
ورئيس التحرير لمجلة «الطيف»
عنوان البريد الالكتروني: fetryx_hariadi@yahoo.com

0 comments:

إرسال تعليق