بعد الفراق

كان ينبغي أن يوازي فجر ذاك اليوم في أنسه واطمئنانه، وأن يجاري صباح ذاك اليوم في إشراقه واغتباطه، لكن ما ألم به عاقه عن موازاة الفجر، وما تعرض له سده عن مجاراة الصباح، فالجسد تجمد، والعقل تحجر، واللسان انعقد، والخاطر انكسر.. أجل، إن أمارات الحياة كادت تذهب عنه، وإن أمارات الموت منه لباديةٌ متعالية.
ها هو ذا وقف متحجرا عن كثب من زوجه منذ انبثق الفجر، محدقا إلى وجها البهي الهادئ، فيه ابتسامة ورضا، وفيه اطمئنان وراحة بال، كأنما يبوح بأن صاحبته قد قامت بواجبها خير قيام، وقد أرضت ضميرها أحسن إرضاء، وأنها آثرت حياة ابنتها الوحيدة على حياتها هي، وأيقنت أنها قد حازت بكل قلب زوجها، وقد نالت كل رضاه عنها، فما كان لها إذن إلا أن تفارق الدنيا مطمئنة، وأن ترجع إلى ربها راضية مرضية.
أجل، إنها لحبيبة إلى قلبه، وإنها لآثر الناس عنده، فأية مصيبة أفجع وأوجع للقلب من فقد أحب الناس إلينا ومفارقة آثرهم عندنا، فلا غرو أن بدأ الكمد والأسى يرمقانه من كل صوب، وأن أخذت الدنيا عليه تتضايق ومصائبها تتفاقم، وإذا الهموم تتناجى في صدره، وإذا الدموع تنهمر انهمارا، وإذا صوته الحزين يردد اسم زوجه البارة..
أي ليلى..! ما عساي أن أفعل بعد فراقك هذا؟ أفترينني قادرا على مواجهة صعاب الحياة وحدي؟
توالت عليه السنون بعد فراق زوجه، وتغيرت بمقتضاها الأشياء كلها.. أجل، كان في فراق زوجه حزن لا صنو له، ووجع لا قبل له، فما أشق ذاك الفراق عليه، لقد كان هناك آمال تشرق فيحطمها، وأحلام تزهو فيهدمها، على أن ابنته الوحيدة التي ولدَتْها له زوجُه، لها يد في تخفيف حزنه وإغماض قلبه عن وجعه، وأنها أعطته روحا جديدا ليستأنف حياة جديدة، فيها عزم وحزم، وفيها جد وكد.
ها هي ذي ابنته قد بلغت الخامسة من عمرها.. إلا أنه كلما حدق إليها من بعيد وجد في نفسه شيئا من الحزن الرقيق. حزين لأن ابنته نشأت وترعرعت وهي محرومة من حنان أمها ودفئها، حزين لأن وجه ابنته استحضر في ذاكرته وجه زوجه تلك الحبيبة إليه العزيزة عليه.
[]

مدينة البعوث الإسلامية، ١١ مايو ٢٠١٧
أحمد سترياوان هريادي

0 comments:

إرسال تعليق