عندما لا يعرفون أقدار أنفسهم

بقلم: أحمد سترياوان هريادي الإندونيسي([1])
مما يقرر عند أصحاب العقول الرشيدة، أنه لا يعرف قدرِ رجل إلا رجل مثله، وعلى هذا الأساس تجلى الحياء في صورته الصادقة، وتزكّى الخلق في نوعه الفريد، وسعى عليه الإنسان محترما، وسما به نجمه متألقا، لأنه لن يخسر أبدا من يعرف قدره، فيراقب ما ينطقه لسانه، ويراعي ما تفعله جوارحه، ولن يندم من يعي نواقصه، فبدلا من مراعاة عيوب غيره والاشتغال بها، ينهض هو إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه.
وعلى ذلك الأساس قُدِّر المرء حق قدره، وتدفق نحوه احترام أقرانه مهما تكن جادة الإختلاف بينه وبينهم، وظل هذا الاحترام يلون مجالسهم إلى الأبد، فلا تسمع آذانُ الناس إلا محاسن كل منهم، فإلى رؤيتهم تشتاق النفوس، وإلى أحاديثهم تلتهب القلوب عطشا.
أجل.. إنهم رجال لفظا ومعنى، جملة وتفصيلا، بهم تتفتح زهور التقوى، وتترسخ جذور الإيمان، وبعد استماع الورى إليهم تتصور ملامح الجد، وتتركز مجامع القوة، ومن آثار فكرتهم تنغرس في نفوس الأمة أسباب التقدم، وتنبسط أمام المسلمين أسباب الزعامة، فيسعون لمجاراة المتقدمين، وجهاد الظالمين، وتحقيق العدالة، وإعادة الكرامة الإنسانية إلى سيرتها الأولى.
وبعد، فهذا وصف من تتداعى الأصوات لتلبية دعوتهم، وما يحول بينهم وبين مقاصدهم العظام إلا حثالة، وبدَهيّ أن تسعى جمهرة الحثالات لتشويه محاسن هؤلاء الرجال، وتأخذ كل أسباب تمكنها في تشييع مساوئهم بين الناس، وكيف لا، فإنها تملك ثروة موفورة لإنجاز مشروعها، فيتجمع لها فقراء الإعلاميين ومساكين الصحفيين، وفعلا.. يُبدأ مشروع إقصاء الرجال الشرفاء، واغتيال شخصياتهم المرموقة.
ومن هنا فلا عجب إذا استغلت جمهرة الحثالات -في سبيل الإنجاز- رجالَ الدين والجامعات، فأصبحت المنابر مصدرا للحقد والبغضاء، والحلقات الدراسية منبعا للتعصب الأعمى والعنصرية الجامحة، لكن النابهين استطاعوا أن يستدركوا من خلال تلك الحوادث المخلصين منهم والمتسولين، والجُرَآءَ منهم والجبناء، والأحرار منهم والعبيد، والعقلاء منهم والجهلاء، والفُطْنَ منهم والمغترين.
واستطاعوا أيضا أن يستدركوا ما للسياسة البائسة من قوة جبارة ساخرة، فبها يتقلب الشيوخ أطفالا، فأصبحت أفكارهم طفولية، وتصرفاتهم طفولية، وقراراتهم طفولية، وبها يعرف الأعداء في بُرَد الأصدقاء، وبها لم يخجل نواشئ الأكاديميين من أنفسهم عندما يتطاولون على العلماء الرجال والمثقفين الشرفاء، ظَانِّينَ أن تقلدهم عدة أنواع المناصب وقراءتهم بعضَ الكتب، قد أتاحَا لهم أن يطعنوا في شخصية هؤلاء الرجال، ويتّهموهم بما لا يليق بهم من جهل وقصور وما إلى ذلك. فبئس الظن..!
وبها أصبح الناس -مهما تكن طبقاتهم- لا يعرفون ما هو الإخاء؟ وما هو الوفاء؟ وما هو الثبات؟ وما هو الحزم؟ وما هو الاحترام؟ ذلك لأن المصلحة أصبحت معبدا يطوف حوله السياسيون وأتباعهم، وبها أصبحت الشخصية تنطمس في مواكب المفاخرة الحزبية الزائفة، وبها تنافست الأحزاب في إملاء مسامع العباد أن الحق عندها، إن هذا إلا الظن، والظن -كما يقول سبحانه- ﴿لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾.
والعجيب أن رأينا في مناكب الحياة من لا يعرف قدر نفسه من شيء، فيظن أن سبيله الميسر في ترقية مناصبه من القاع إلى القمة -بمدح أصحاب المناصب والدفاع عنهم- قد غيَّرَ أنظار الناس إلى نفسه، فيتصرف كأنه صاحب الفضيلة الحقة والعلوم العميقة والتجارب الواسعة.. فوا أسفا عليه!
لكن الأعجب من ذلك أن رأيناه لا يستحي من نفسه ومن الله تعالى عندما يصف هؤلاء العلماء الرجال بالضلالة، والحق أنه من هؤلاء الرجال لا يساوي شيئا، لا في علمومهم، ولا في تجاربهم، ولا في إنجازاتهم من الكتب والبحوث.. شتان!
وكيف يصح عند أصحاب العقول أن قام من سبقه في العلم والفضل من أكابر العلماء وعظائم الحكماء بتعظيم هؤلاء العلماء الرجال وتبجيلهم، وتقديرهم حق تقدير، والاعتراف بحسن بلائهم للإسلام والمسلمين – وقام هو ومن تبعه من هؤلاء الصغار والقصار بسَبِّهم ووصفهم بالضلالة ومحاولة الإقصاء عليهم علميا واجتماعيا..؟! أُفٍّ له ولمن تبعه! أفلا يجلسون إلى أنفسهم حينا من الوقت يراقب كل واحد نفسه ويسائلها: ما هذا الذي فعلته؟ يا وَيْلِي! أين أنا من هؤلاء العلماء الرجال؟
فيا للأسف! أنَّى يكون لهم ذلك، فقد منعتهم مصالحهم، وسدّتْهم كبرياؤهم، وعاقتْهم ضغائنهم. لكن مهما تكن محاولتهم السفيهة لإقصاء هؤلاء الرجال، فإنها لا تكون إلا حجة عليهم، ذلك لأن الرجال كرهوا أن يشغلهم هؤلاء القصار، ففضلوا السكوت، يزيد القصار سفاهة ويزيد الرجال حلما، كعود زاده الإحراق طيبا..
يا ليت رشدهم يعود إلى أنفسهم!
مدينة البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف، 31 من يناير 2014




([1]) طالب الفرقة الرابعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة، جامعة الأزهر الشريف. 

0 comments:

إرسال تعليق