قال عمر بن الخطاب

من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن

قال حكيم من الحكماء

أربعة توصل إلى أربعة: الصبر إلى المحبوب، والجد إلى المطلوب، والزهد إلى التقى، والقناعة إلى الغنى

قال زيد بن علي

ولا تستعينوا بنعم الله على معاصيه

قال أحد الأدباء

مهما يكن احتفالنا بيوم الفراق، واغتباطنا ساعته؛ فإن الفراق لا بد أن يترك فيما بعد كما هائلا من الوحشة

قال حكيم

كن بعيد الهمم إذا طلبت، كريم الظفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت

في ذكرى مجلة الرسالة

وا رسالتاه!

لم يحزن الأدب العربي الحديث كما حزن لفراق «الرسالة» إياه إلى الأبد، ولم يفجع فجعا يزعزع حياته كلها، ثم يقعده عن أداء رسالته حق الأداء - كفعجه لموتها..

وكيف لا يحزن حزنه هذا، وأنى له لا يفجع فجعه هذا، فقد عاشت حياتها كلها لخدمته، فلم يجد فيها من تقاعس وتقصير، ولم يعرف منها إلا إخلاصا ووفاء في وقت تشتد الحاجة فيها إلى النفاق والخيانة، ولم ير فيها إلا عفة وإباء في وقت يستوجب فيه الوضعُ الضراعةَ والملقَ.

أجل، لقد حاولت «الرسالة» ما وسعها أن تبقى مقدامة في ميدان الجهاد الثقافي، وصامدة على قدم وساق في مكافحة الفتور الأدبي، وفي مناضلة الأمية الأدبية، وحاولت ما أتاحت لها قوتها أن تظل طامحة إلى تحقيق أهدافها الجليلة، وسائرة على دربها حتى تبلغ غايتها المنشودة؛ وغايتها -كما قال مؤسسها في عددها الأول بتاريخ 15 يناير 1933م- هي «أن تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبهْرجَ الأدب بتثقيف الذوق، وحيرةَ الأمة بتوضيح الطريق».

ولكن لكل أجل كتابا، ففي 23 فبراير 1953م أصدر الأستاذ الزيات آخر عددها، وبهذا العدد فارقت «الرسالة» الدنيا إلى الأبد، وتحولت إلى الذكرى بعد أن ملأت الدنيا وشغلت الناس.

لقد شاهد الناس كيف ظهر على منبرها عباقرة الأدباء، وجهابذة النقاد، وفحول الشعراء. ووجدوا في ظلالها كيف ارتبط القديم بالحديث. وعرفوا من خلالها ما كان للشرق من صلة متينة في الحياة الأدبية والفكرية بالغرب.

منها جمع الأدباء مقالاتهم فكانت كتبهم الشهيرة، والشعراء أشعارهم فكانت دواوينهم النفيسة، وحسبك أن ترى الأدب العربي الحديث قد بلغ بسببها أعلى ما يسع الأدبَ أن يبلغ، ونال بفضلها أوفر ما يمكن الأدبَ أن ينال. 

مدينة البعوث الإسلامية، 30 يناير 2015م

أحمد سترياوان هريادي

عن المرأة أيضا

لا تكون للمرأة قيمة إذا لم تكن صادقة أمينة فيما تفعل وفيما تقول، فأخبرني ما قيمة الجمال مع الخيانة، وما قيمة العلم مع الكذب.. قد كنت أرى أن الرجل في الطليعة من حيث الخيانة، وأنه في الصدارة من حيث الكذب.. فإذا هذا الرأي مخالف للواقع كل المخالفة.

وكنت أظن أن المرأة إذا وصفت بالذكاء والعلم والثقافة والخلق؛ ترفعت عن كل ما تتعرض له معظم النساء من الدنايا.. زد على ذلك إذا استعانت هذه المرأة بالملبس المهيب الدال في بعض الأحيان على استقامة السلوك ونقاء السريرة.. ثم تبينت مع مرور الزمان أن ظني هذا لا يغني من الحق شيئا.

مدينة البعوث الإسلامية، 15 يناير 2015م
أحمد هريادي

شيخي وأستاذي الدكتور زكي محمد أبو سريع

لقد كان لشيخي الأستاذ الدكتور زكي محمد أبوسريع عظيم الأثر في نفسي وفي عقلي، ولا يزال.. ومع عظمة أثره فإني لم أعرف منه إلا أيسره، وما هذا اليسير إلا ما بدا لي -بل وما باشرته- من متانة إخلاصه، وكرامة خلقه، وغزارة علمه.

ومن شرفه الله تعالى بحلاوة لقيا الشيخ وملازمته، وباقتطاف ثمار العلم والحكمة من ثغره البراق، وبقراءة آثاره القيمة؛ ليعرف حق المعرفة أن الشيخ قد تجمع في نفسه كل شيء يمكنه في أن يكون -في وقت واحد- باحثا أمينا مدقِّقا، وعالما مخلصا مثقَّفا، وأستاذا أثيرا محبَّبا. 

وفعلا، لقد أصبح الشيخ أحب الأساتذة إلى نفوس الطلبة، وكانت محاضراته النفيسة مترقبة كما يُترقَّب العشيقُ، فما من شك إذن إذا كان الشيخ -كما يقول المعري- من الناس من لفظه لؤلؤ، يبادره اللقط إذ يلفظ، ولا يزال..

لقد تولى الشيخ تدريسنا مادة التفسير مذ أن كنا في الفرقة الثانية، وكان ينبغي أن يتغير الأساتذة بتغير العام الدراسي كما هو المعتاد، ولكن الشيخ -مع تغير الأساتذة- ما يزال يدرسنا نفس المادة إلى أن تخرجنا، وهذا بلا شك لنعمة لا تجارى، وفخر لا يباهى.. لقد أطال الله عهدنا بالشيخ الجليل، فله الحمد والثناء.

وأنا فيما بعد عرفت أن زملائي المصريين كانوا يلحون على العميد في أن يتولى الشيخ تدريسنا. هذا، إن دل على شيء، فإنما يدل على شدة حب الطلبة إياه، وبالغ حرصهم على استقاء نفائس العلوم منه.


مدينة البعوث الإسلامية، 25 ديسمبر 2014م
أحمد سترياوان هريادي

ما الذي تحتاج إليه اللغة العربية؟

بقلم: أحمد سترياوان هريادي
لا شيء أدعى إلى الكمد والأسى من عدم تمكننا في لغة نزل بها كتاب ربنا، ولا شيء أدعى إلى التحسر والحزن العميق من أن نرى أنفسنا عاجزين أيما عجز عن فهم مراد ربنا في كتابه المعجز وفي سنة نبيه المطهرة، ولا شيء أدعى إلى مظهر يستحسن فيه أن نكون ترابا من أن نرى أعداء الإسلام أكثر منا اهتماما بلغة كتابنا، بل أشد منا إلماما بها وبآدابها، حتى ليصبحوا أحق الناس بالإمامة فيهما منا -معشر العرب والمسلمين- طوعا أو كرها.
وهذا المظهر الكئيب يزداد كآبة عندما نرى أنشطة أعداء ديننا في لغة كتابنا أخذت تنمو وتنهض، وأخذت تؤتي أكلها وتحقق فيها إمامتهم، بينما العرب والمسلمون -في الوقت نفسه- في نوم عميق وفي غفلة داجية. فما ظنك إذن إذا كان الأعداء يفرطون في النشاط ويلحون في الإفراط، بينما نحن المسلمين مقصرون في النشاط ومغرقون في التقصير؟! أفلا يكون إذن مرير العقبى نتيجة حتمية نتعرض لها، فأصبحنا محتلين علميا وثقافيا، وغدونا لهم -رضينا أم أبينا- تَبَعًا لهم، منقادين لأحكامهم ونتائج أبحاثهم في لغة كتابنا وآدابها؟!
أضف إلى ذلك أن اللغة العربية الفصحى لم تعد لها من شأن بين أهلها، فهناك أناس يزعمون أنهم عرب والعربية منهم بريئة كل البراءة، فلو كان للعربية الفصحى من شأن عندهم لما رأيناها مهملة كأسوأ ما يكون الإهمال. فإذا بالعربية الفصحى لم تعد توجد إلا في المنابر والمحافل الرسمية وفي بعض حلقات الدروس الدينية، أما ما عدا ذلك فتبقى مخطوطة محفوظة في كتاب الله وسنة نبيه المطهرة، وتبقى مستخدمة في كتب العلماء والأدباء والمثقفين قديما وحديثا، وفي بعض الصحف وإن بعدت عن كل ما نتمناه من رقي في المستوى.
ولو كان للعربية الفصحى من شأن عند هؤلاء الزاعمين، لجعلوها مفخرة وقدسوها تقديسا، بل وضحّوا  في سبيلها تضحية كما فعل الأمم الراقية إزاء لغاتها، وبذلوا ما وسعهم من جهد وطاقة وإمكانية في تخطيط البرامج الفعالة المؤدية إلى شيوع الفصحى في الأوساط العامة، حتى لتصبح لغة يومية لا خلل فيها ولا شلل، كما كان شأن اليابانية مثلا عند أهلها وكذا الإنجليزية والفرنسية.
 ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين صور سوء حظ العربية بين أهلها أتم التصوير فقال على لسان اللغة العربية:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ  لَفْظًا وَغَايَةً * وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيْقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ * وَتَنْسِيْقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ
فَيَا وَيْحَكُمْ أَبْلَى وَتَبْلَى مَحَاسِنِيْ * وَمِنْكُمْ وَإِنْ عَزَّ الدَّوَاءُ أَسَاتِي
أَرَى لِرِجَالِ الْغَرْبِ عِزًّا وَمَنْعَةً * وَكَمْ عَزَّ أَقْوَامٌ بِعِزِّ لُغَاتِ
أَتَوْا أَهْلَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ تَفَنُّنًا * فَيَا لَيْتَكُمْ تَأْتُوْنَ بِالْكَلِمَاتِ
هذا، فما أحوج العربية إلى من يواسي وحشتها ويؤانس غربتها بين أهلها، وما أحوج العربية إلى من يبدي للعالم أجمع أنها -كما قال حافظ- «بحر في أحشائه الدُّر كامن»، وما أحوجها إلى من يعيد مجدها القديم حيث كانت في طليعة لغات للعلم والفكر والثقافة والحضارة، وما أحوجها إلى من يأخذ بزمامها فيعود بها إلى عالم الوجود بعد أن كانت مدفونة في مقابر الإهمال، وما أحوجها إلى أناس مخلصين يقومون ليلا ونهارا بإعلاء شأنها بين الناس، وصيرورتها محببة إلى أنفسهم، فأصبحت هدفا إليه يسعون، وقمةً إلى بلوغها يتسابقون.
أجل، إن العربية في حاجة ماسة إلى هؤلاء المحتسبين من الأدباء والخطباء والشعراء والكتاب والمحررين.. ما أحوجها إليهم!  فهم الذين لا تعنيهم إلا مرضاة ربهم، فيكون شعارهم دائما في سعيهم: ▬وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِيْنَ♂، وهم الذين مهما تكن الظروف لا يجد المللُ إلى أنفسهم سبيلا، لأنهم يعون تمام الوعي أن خدمتهم للعربية من أبرز ما يتقربون به إلى مولاهم سبحانه، فلا يبتغون من الناس جزاء ولا شكورا مقابل ما بذلوه من جهد في سبيل إعلاء شأن العربية.   
وهم الذين يواظبون على ملء قلوب الناس ولفت أنظارهم وقرع أسماعهم بأروع ما يبدعون من ضروب المنظوم، وبأحسن ما ينتجون من صنوف المنثور، وهم الذين لا يهمهم إلا العمل والمثابرة عليه، فلا يستوقفهم أيقبل الناس على صنيعهم أم يعرضون عنه، ولا يستوقفهم أيقدّر الناس جهودهم الجبارة أم يستخفون منها، ولا يستوقفهم أيعترف الناس بتراث قرائحهم وعجيب مواهبهم أم يتجاهلونهما. []

الحي السابع، 19 أكتوبر 2014م

كواكب الفصحاء وعزة الأزهر

إن صمود مركز كواكب الفصحاء مؤسسه ومشرفه وسائر أعضائه أمام هذه الصعاب المتشعبة، في زمن غير قصير، وفي وضع غير يسير، ليبدي لنا ما له -إن شئت فقل: ما لهم- من إخلاص لا يجارى في خدمة لغة القرآن، ومن همة لا تباهى في السمو بها.. أضف إلى ذلك أن ليس لهم من رأسمال إلا صدق إخلاصهم وعلو همتهم.
اللهم إذا قسنا بشدة عزوف العرب عن الاهتمام بها، وبالغ عنايتهم بتوافه الأمور؛ ليضطرنا إلى أن نقطع بأن الدهر بدأ يعود إلى سيرته الأولى، وبأن العربية عادت تفرح، لأن فجر عزتها بدأ ينبثق على أيدي هؤلاء الوافدين النابغين، وبأن زمام أمور العربية ليس بيد أولئك العرب الكسالى، وإنما بيد هؤلاء الوافدين المهتمين بها دراسة وتأليفا، ممارسة وإتقانا.
إن وجود مركز كواكب الفصحاء ليس عزة للعربية وحدها، وليس فخرا للوافدين أنفسهم، وإنما الفخر والعزة لهذا المعهد العريق الأزهر المعمور، فوجود مركز كواكب الفصحاء لسان ناطق وبرهان ساطع على أن الأزاهرة ما يزالون في الطليعة، وما يزالون مستحقين كل الاستحقاق بإمامة الأمة في العربية مهما تكن طبقاتهم، ومهما تكن أصولهم.
لقد سمعت قبيل سفري إلى بلد الأزهر طلبة معهد العلوم الإسلامية والعربية بجاكرتا -وهو فرع جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض- يسخرون من خريجي الأزهر الإندونيسيين، فقال لي أحدهم: لقد رأيت جمهرة من خريجي الأزهر، فإذا هم عاجزون أيما عجز عن إجادة العربية محادثة وكتابة، فالمعهد إذن أحسن من الأزهر، والمعهد إذن أليق بالسير إليه من الأزهر، ألا ترى يا صديقي أن طلبة المعهد أقدر على المحادثة وعلى الكتابة من هؤلاء المتخرجين في الأزهر! اهـ.
على أني لم أكن أستطيع أن أقول له شيئا، وأنى يكون لي ذلك فإني لم أكن أرى من الأزهريين من يريه أن ما قاله هذا بعيد عن الصواب كل البعد، وأن ما قاله هذا تجاهل بدور الأزهر أتم التجاهل في المحافظة على لغة التنزيل نقاءها ورونقها منذ أكثر من ألف سنة، وأن ما يراه من مدعي الأزهر ليسوا من الأزهر في شيء.. لماذا؟ لأن الأزاهرة الحقيقيين ما عرفوا إلا بتمكنهم البالغ، وإلمامهم الفائق بلغة القرآن وآدابها.
ولله در أخي محمد الأمين مغاسوبا الغيني عندما يقول مخاطبا الأزهر:
لقد عشت ألفا للأنام معلما * وكل فنون العلم تجني وتعصر
وقد كنت بل ما زلت صرخا مخلدا * تخرج أجيالا، وجيلا تحضر
أخذت من اليونان أنفس علمها * وأنفع علم الشرق كنت تمصر
وتصنع من خام التراث حداثة * تنقح منه غثة وتحور
فهديك بدر كيفما سار سائر * فأنواره تهدي السراة وتعبر
فالأزهري إذن لا بد أن يخجل من أزهريته عندما يرى نفسه مقصرة في الاهتمام بالعربية إجادة وممارسة، والأزهري إذن لا بد أن يستحي من الناس عندما يشرح لهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وهو عن لغة الكتاب والسنة غافل مسرف في غفلته، وبها جاهل مغرق في جهله.
فالأزهري إذن محتاج إلى ميدان رحيب فيه يتدرب على إبداع ضروب المنظوم، وإنتاج صنوف المنثور.. والأزهري إذن محتاج إلى مجال فسيح فيه يتمرن على فنون الإلقاء من خطابة وحوار.. والأزهري إذن محتاج إلى زملاء صادقين مخلصين للعربية، يتعاونون ويتداعمون معه على السمو بالعربية.
ذلكم مركز كواكب الفصحاء، ميدان فسيح لهذا وذاك، ومجال رحب لهذه وتلك.. فيه طلبة ذوو همم عالية، وأقدام راسخة، وفيه شباب لا يؤمنون بالمحال مهما يكن، ولا يعترفون بالملل مهما يكن، لا يهمهم في كل وقت وحين إلا السير على دربهم، ولا يعنيهم من شيء أبالغون هم الغاية أم غير بالغين، وفيه أزهريون حريصون على الإسلام والعربية كل الحرص، ومقبلون على الاستفادة والانتفاع من غيرهم كل الإقبال.

جامع عمرو بن العاص - مصر القديمة، ٧ نوفمبر ٢٠١٤م
أحمد سترياوان هريادي